الحمد لله الذي فرض علينا الصيام كما فرضه على الذين من قبلنا، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، خير من صلى وصام وقام، عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
فنحن مقبلون على شهر عظيم هو شهر رمضان، شهر البر والإحسان، شهر أُنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، شهر تمنى النبيُ صلى الله عليه وسلم لقاءه، فقبل لقائه هو في شوق وحنين إلى لقائه، ما ودعه مؤمن إلا وقلبه يحترق لفراقه، وما انصرف شهر رمضان عن عبدٍ صالحٍ قام بحقه وعرف قدره إلا كان انصرافه في قلبه حزناً شوقاً وحنيناً لا يعلمه إلا الله، كم دخله بعيد من الله فقربه الله، وكم دخله محروم فأعطاه الله، وكم دخله مسيء فتاب الله عليه، لذلك كان الأخيار من سلف هذه الأمة يتمنون لقاءه، ويدعون الله وصوله وبلوغه،
ولي معكم أيها القراء المباركين (خمس وقفات) قبل حلول هذا الشهر المبارك.
الوقفة الأولى: إذا قدم عليك شهر رمضان فوضعت أول قدم على أعتابه فحري بك أن تتذكر نعمةً من الله أسداها إليك، ومنةً من الله أولاها إليك، هذه النعمة أن بلغك الله شهر رمضان، هذه النعمة أن كتب الله لك الحياة إلى بلوغ هذا الشهر، كم من قلوبٍ حنت واشتاقت إلى لقاء هذا الشهر ولكن انقطع بها الأثر، فهم تحت الثرى في القبور، فإذا بلغت شهر رمضان فتذكر منة الله عليك، واحمد الله على الوصول والبلوغ، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد على أن بلغتني رمضان لا أحصي ثناءً عليك، إن قلت هذا وتمكنت هذه النعمة من قلبك تأذن الله لك بالمزيد {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}، وحري بأن تصاب برحمة الله عز وجل، والله ما شكر عبد نعمةً من نعم الله عز وجل إلا بارك الله له فيها، وإذا بلغت شهر رمضان تذكر أناساً حيل بينهم وبين الصيام والقيام، رهناء الآلام والأمراض والأسقام، فهم على الأسرة البيضاء، فإذا تذكرت ذلك ورأيت الصحة والعافية في بدنك فاحمد الله على الوصول والبلوغ، واسأله جل وعلا أن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته.
الوقفة الثانية: اعقد النية على صلاح القول والعمل، فليكن لديك منذ بداية هذا الشهر عزم بينك وبين الله على المسير إلى الله والتقرب إليه بطاعته وذكره والتقرب إليه، وهذا أمر ينبغي أن يتذكر من بداية هذا الشهر، بأن تعقد النية على صلاح القول والعمل، فكم من أناس أدركوا شهر رمضان وأدركوا يوماً أو يومين، ولكن اختارتهم المنية قبل بلوغ آخره فأعطاهم الله الأجر كاملاً، لأنهم كانوا يطمحون ويطمعون في فعل المزيد من الطاعات، وكانت نيتهم التقرب إلى ربهم بشتى القربات.
الوقفة الثالثة: وهي وصية نبوية، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)، لأن الصيام لا يقتصر على الإمساك عن الطعام والشراب فحسب، ولكن هناك صيام عن الإحجام عن الكلام الذي لا يرضي الله عز وجل، وهناك صيام عن الأفعال الذي تسخط الله عز وجل، لأن الصائم لا يليق به أن يرتكب لقط الكلام ورفثه، فاحفظ لسانك -أيها الصائم- ولا تتفوه إلا بما يرضي الله عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه.
الوقفة الرابعة: هذا الشهر هو شهر التوبة والإنابة والمغفرة والعتق من النيران، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)، فذنوب العام كل العام تمحى لمن صدق مع الله في هذا الشهر إذا اجتنبت الكبائر، قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك) رواه مسلم، وقال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم.
ومن لم يتب إلى الله عز وجل في رمضان فمتى يتوب؟! ومن لم يعد إلى الله عز وجل في رمضان فمتى يعود؟! فالبدار البدار بالتوبة قبل حلول الآجال.
الوقفة الخامسة: من الأمور المهمة التي ينبغي للشخص أن يفعلها قبل حلول رمضان أن يتفقه في أحكام الصيام وما يتعلق بشروطه وآدابه وسننه وما يجب وما لا يجب إلى غير ذلك من أحكام الصيام، حتى يهيئ نفسه لاستقبال شهر رمضان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) متفق عليه، فمن لا يسأل عن أمور دينه ولا يتفقه في أحكام الصيام ما أراد الله به خيراً بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخي القارئ الكريم أختي الفاضلة.. بعض الأمور التي نستقبل بها هذا الشهر العظيم، فلنغتنم أيام هذا الشهر ولياليه وساعاته في الاستزادة من الخير والإقبال على الله عز وجل، فإن العاقل والله لا يفرط في هذه الأيام، وما يدريك لعلك مكتوب في سجل الأموات هذا العام، وما يدريك لعلك لا تدرك رمضان المقبل.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب
حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدَهُما
فلا تصيره شهر تضييع وعصيان
واتلُ القرآن ورتل فيه مجتهداً
فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام من سلف
من بين أهل وجيرانٍ وإخوانِ
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً
فما أقرب القاصي إلى الداني
اللهم بلغنا شهر رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا فيه ووالدينا من عتقائك من النيران.
** **
- إمام وخطيب جامع الأميرة منيرة بنت عبدالعزيز بن مساعد بحي تلال الرياض والمستشار الشرعي