د. خيرية السقاف
لأذان المغرب في رمضان رنيم تشنف لإيقاعه كل جارحة في الذات..
في مكة المقدسة, حين كنا صغاراً نتجه إليها من الرياض, لنكون لأهلنا المقربين فيه, كنا نركض لبوابة البيت الأُسري الكبير, المشرف على ارتفاع في ثغر ريع مكتنف بدفء طرقها الآهلة بالتسبيح, والتكبير, أو نركض نتسابق للعلية في سطوحه المشاع لألعابنا, لنشاهد انطلاقة مدفع الإفطار, وتلك الأدخنة التي ترافقه فنتوسمها غيمةً وارفةً, بذلك الشعور الساري في عروقنا بهجة بموعد الإفطار, حين لم تكن سفرة الطعام تجهل عبثنا بأطباق «السمبوسك» قبل أن يلتف الكبار حولها ويبتدرون بالتمرة, وقدح من ماء زمزم المبخر بالمستكة!!
أذان مغرب رمضان بقيت له إيقاعاته المتشابكة بعروق الروح, الناحتة أطرَ الحسِّ, المشكِّلة لوحةً وهَّاجة لسعادة دفينةٍ تتهلل بها ملامحُنا حتى اللحظة..
إذ لا تزال أقداح الزمزم المبخرة, و»شربة» الماء الفخارية بعبق المستكة تحضر فوق طاولة الطعام حتى يوم رمضان البارحة في بيتي, كأنها تعيد «لمَّة», فيحضر صوت أمي, ووجه أبي, وطيف عمي, وجملة إخوتي منهما معنا هنا, لا يبارحون الإصغاء لإيقاع النداء الرخيم..
مع أنّ مفصل الزمن قد أرخى أوتاده بين, وبين, وأقام حواجزه بكل متغيراته!!..
إذ إن أذان رمضان الآن كما قد تغيرت الناس, وخفتت فيهم الإيقاعات, واختفى مدفع الإفطار ..
تغيّر وقعه, فهو الآن إيذان للجائع أن يأكل, وللعطِشِ أن يشرب, وبالكاد يتحدث أحد لآخر, أو تفوح رائحة المستكة من أقداح الماء الزجاجية ذوات الأحجام المختلفة..!!
الجفاف عمَّ كالذي تصنعه فينا سطوة الجمادات, ودوامات الغبار!!..
وتلك الجدر الأسمنتية التي حبستنا عن الفضاء, وضيّقت على أسماعنا الإصغاء لدبيب النملة, ومواء القطة, وهدير الماء, وحفيف الشجر, وأنين البؤساء..
لكن الصغار وحدهم يتشابهون!
يتطوّفون بالمائدة في انتظار ارتفاع أذان المغرب, والإعلان بالسماح للتمرة, والقطرة..!!
أو لشريحة من حلوى, وكأس من عصير!!..