أ.د. حمد بن ناصر الدخيِّل
لكل بلد أو قرية سكنها الإنسان تاريخ طويل مفعم بالأحداث، وعته ذواكر أبنائها، ورددته في مجالسها جيلاً بعد جيل. وبتتابع الروايات الشفهية عبر السنين يتساقط كثير من الروايات السابقة، وتستجد أحداث وأخبار جديدة، ويجري عليها ما جرى على ما سبق تداوله من انحسار وغياب. ولنا في تراث الجاهلية وما فقد منه عبر الروايات الشفهية نموذج ومثال. وقس على ذلك حلقات ثمينة فقدناها من تاريخ نجد ونشاط سكانه منذ القرن الثالث الهجري إلى القرن التاسع ما عدا نتفاً متفرقة لا تكون تاريخاً متسلسلاً.
الفشخاء قرية نجدية صغيرة تقع غربي مدينة المجمعة وبعدها عنها لا يتجاوز ألفاً وخمس مئة متر، تقع في الناحية الجنوبية من وادي المشقر (الوَدَاء قديماً) بمسافة أقدرها بنحو خمس مئة متر، يفصلها عن الوادي بعض المزارع وأراض بيضاء .
نشأت قرية زراعية، ورؤي أن تبتعد عن الوادي حتى لا يداهمها السيل مثل الذي داهم رويضة الخيس في مطلع عام 1350هـ، فاجتاح المنازل، وحمل ما بها من أثاث وحيوانات، وأصبح هذا الحدث يعرف بفضية الرويضة. والعجيب أن الفشخاء قامت على أنقاض قرية قديمة تسمى القلعة، وربما كان تاريخها قريباً من تاريخ أشي ذكرها الأصفهاني المتوفى نحو 310هـ وهو ينقل عن رواة تقدموه، وهذا دليل على أن المجمعة من المنازل القديمة، ولكنها لم تكتسب اسم المجمعة إلا بعد تأسيسها الحديث عام 820هـ، ويدلنا على ذلك بلدة أشي، وبلدة المكشحة التي تقع بالقرب منها، ولكنها اندثرت، ولا يعرف مكانها. وإلى وقت ليس بعيداً كانت الفشخاءُ تعرف باسم القلعة وباسم الفشخاء، ثم تنوسي الاسم التاريخي الأول، وبقي الأخير، ولدي وثيقة تثبت ذلك.
ومنذ أن أنشئت قديماً في زمن لا نعلمه ككثير من بلدان نجد وقراه مَرَّتْ بها أحداث، وتكون لها تاريخ تناقله الرواة دون أن نظفر بشيء مدون منه. نعرف - مثلاً - لماذا سميت القلعة، ونفهم أيضاً أنها قديمة، وندرك أن الذين اختطوها وبنوها هم من بني تميم؛ لأنها ضمن منازل القبيلة منذ العصر الجاهلي.
وحاولت أن أستنطق تاريخها فلم أجد سوى وثائق مبايعات ووصايا أقدمها يرقى إلى القرن الثاني عشر الهجري.
حين كتبت عنها أول مرة وجدت أن كثيرين يجهلونها اسماً وموقعاً، ولهم العذر في ذلك، فهي لا تعدو أن تكون قرية لا تتعدى بيوتها مع مقاصير الحراسة التي تتربع على أسوارها خمسين بيتاً ومقصورة، بعض هذه المقاصير خارج سورها الذي كان محكماً سامقاً، سمكه لا يقل عن متر، وأزيل هذا السور من الناحية الجنوبية؛ لتوسعة الطريق القادم إليها عبر نخيل الجو، وبقي منه شذرات في الناحية الشمالية خاصة.
حين أنشئت القرية كانت المسافة بينها وبين بلدة المجمعة مفتوحة، أرضاً فضاءً، فنخيل الجو لم تغرس بعد، وكان الرائي إذا وقف عند باب حيّ حُوَيْزَةَ، وهو مرتفع قليلاً عما حوله يرى مقاصير القلعة أو الفشخاء، ثم أقبل أهل المجمعة على الأرض الفاصلة بين البلدة والقرية وحولوها بالتملك إلى مغارس للنخيل، فحفروا الآبار، وجعلوا بين مزارع النخيل طريقاً واسعاً تسير فيه السيارة الآن دون صعوبة، وأحكمت المزارع بأسوار طينية، وجعل لكل مزرعة باب أو أكثر يغلق ويفتح عند الحاجة. وعند الصباح، يخرج المزارعون من نخيلهم يحملون منتجات فلائحهم ذاهبين بها إلى سوق المجمعة القديم، تحملها الحمير، والمنتجات الزراعية متنوعة حسب المواسم. لم يكن استعمال السيارات متوافراً في ذلك الوقت، فكانت الحمر أيسر وسيلة للنقل، أما الإبل فكانت للأحمال الثقيلة في المسافات الطويلة. كان للسواني نغم محبب يشنف أذن من يعبر طريق الجو ذاهباً إلى الفشخاء أو راجعاً منها، وكانت النخيل عامرة مخضرة قد أفعمها الري والعزق والتسميد فبدت غضة نضرة، قد أثقلتها العذوق وقت الإثمار، وبدا البسر في الشماريخ أخضر تكاد تعده من فرط انتظامه وجلائه. كانت النخيل نخيلاً يوم كان الفلاح المواطن يباشر خدمتها، وفقدت حيوتها حين أوكل أمرها إلى من لا يحسن القيام عليها، ولا يقبل على معاملتها بإخلاص صاحبها الذي بكت لفقده، وذوت حزناً لهجرانه.
في الطريق المظلل بأشجار النخيل من جانبيه الذي يوصل إلى الفشخاء من مدينة المجمعة تقع ثلاثة مساجد صغيرة، يبعد بعضها عن بعض بمسافات متقاربة، يصلي بها من يحضر من الفلاحين، ومن يمر بها من السابلة. كنا نقطع هذا الطريق يومياً ذهاباً وإياباً، في طريقنا إلى المدرسة وعودتنا منها، وهو أطول قليلاً من الطريق الذي نسميه طريق البر، وهو طريق مستقيم يختصر المسافة بين المدينة والقرية. أما الطريق الزراعي فيبدو متعرجاً؛ لأن مغارس النخيل لم تكن على استقامة واحدة. أدركت نخيل الجو متوسطة الطول، فهي إلى القصر أقرب، في حين شاهدت في نخيل الفشخاء نخيلاً طوالاً تعرف بالنخيل العيدان، مفردها عيدانة، وهي كلمة عربية فصيحة، من ذلك نخلة سحوق يلامس رأسها عنان السماء، لا يكاد الرائي يرى رأسها لفرط طولها، وهي من نوع السلج أدركتها قبل أن تسقط بمدة، وكانت تقع بالقرب من بئر البديع في النخل المسمى (فيد خليف) نسبة إلى شخص يقال له خليف بن سعران المتوفى عام 1319هـ، وورد اسمه في وثيقة كتبت عام 1247هـ أو عام 1246هـ، وكانت له أملاك في الفشخاء ومن بعده لزوجته لطيفة بنت ناصر بن حامد، وكان قيد خليف مزدرعاً لوالدي وأعمامي، وقبل ذلك كان مزدرعاً لجدي من قبل أبي المتوفى في عام 1342هـ منذ تاريخ 25-1-1337هـ، ومن ذلك نخلة من نوع الحلوة بالقرب من بئر النخل المسمى (فيد العيسى) وبلغت من الطول قدراً لا يكاد يصدقه إلا من رأها عياناً.مرة صعدها (رقاها) والدي دون كر، وأحضر منها بسراً قد شَهّل أي مال إلى التلوين، ولون الحلوة أحمر كما هو معروف، كان ذلك نحو عام 1373هـ/ 1953م.
أما نخيل الجو الواقعة بين بلدة المجمعة وقرية الفشخاء فهي نخيل حديثة العهد، وكانت مباني الفشخاء ترى من باب حُوَيْزَة في غربي المجمعة القديمة، قبل أن تغرس نخيل الجو التي حجبت الرؤية، كما ذكرتُ منذ قليل. والرواية مصدرها العم عبد الله بن حمد بن سليمان الدخيّل (1316 - 1399هـ) عن أناس تقدموه. كما أخبرني بذلك عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد اللطيف العيسى، وهو من المهتمين بتاريخ الفشخاء، وأدركت في نخيل الفشخاء نخيلاً طوالاً سقطت، وغرست في مكانها فسائل النخيل رأيتها بعد سنين بسقت وطالت.
عُرِفَت الفشخاء منذ إنشائها باستقبال الضيوف والغرباء، وإكرامهم؛ فما أن يفد ضيف أو غريب فإنه يجد المأوى والطعام، ولا سيما من البادية الذين كانوا يطرقونها كثيراً، وبخاصة من قبيلة مطير التي كانت تنتشر في هجر سدير وبراريه.
في زمن مضى كانت أحوال الناس المادية ضعيفة، وبيوتهم صغيرة لا تتسع لاستقبال الضيوف، وتوفير المبيت لهم، فعمد أهالي القرية في زمن لا أستطيع تحديد تاريخه إلى بناء حجرة صغيرة بجانب مسجدها الوحيد وبئره التي كانوا يسمونها الدلو من باب تسميه الكل بالجزء؛ لأن الدلو أصبحت جزءاً لا يتجزأ من البئر، ولا يستفاد من مائها بدونها، أو من باب تسمية المحل بالحال، ويسميه البلاغيون مجازاً مرسلاً علاقته الجزئية أو الحالية؛ ليكون مقراً لإكرام الضيف والغريب، ويتناوب السكان على إكرامه. وطريقتهم في ذلك أن من تقع عليه نوبة إكرامه يحضر طبخة البن والتمر، ويصنع القهوة أمام الضيف ويقدمها له، وربما يكون هناك أكثر من واحد، وربما أتاه بالطعام أو دعاه إلى منزله. وهذه الحجرة هي مضافة القرية، ولكنها هدمت منذ زمن بعيد بعد أن تحسنت أحوال الناس، واتسعت بيوتهم وأرزاقهم، وأصبحوا يستقبلون الضيوف في منازلهم. وممن اشتهر في الفشخاء بالكرم شهرة واسعة في زمن قريب محمد بن عبد اللطيف بن فوزان العيسى، (ت 1373هـ) والخال عبد الله بن محمد بن سلطان المعجل (ت 1385هـ)، والعم عبد الله بن حمد بن سليمان الدخيّل (ت1399هـ)، ووالدي (ت 1421هـ).
وللفشخاء محطات تاريخية لم تدون، من ذلك أنها أسهمت في توحيد البلاد أيام الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة، فكان إذا أسهم من بلدة المجمعة ثلاثة رجال أسهم منها رجل مع صغرها وقلة سكانها. وفي سنوات القحط ونضوب المياه خرج أفراد منها إلى الزبير والبصرة وبغداد والكويت طلباً للرزق، وبعضهم عاد يحمل لكنة عراقية في لهجته؛ لطول مقامه في العراق. ومؤشر سكانها يدل على أن أول من اختطها قديماً وحديثاً كانوا من بني تميم فموقعها وموقع بلدة المجمعة وسائر بلدان سدير والزلفي والدهناء والصَّمَّان كانت من مرابع بني تميم ومنازلهم، وأضيف إلى ذلك منطقة الوشم، وسكانها إلى وقت قريب قبل أن يهجرها أهلها كانوا جميعاً من تميم، وأغلبهم من النواصر، وهم الدُّخَيِّل والحُسين واليحيا والمعجل، والأسرتان الأخيرتان ترجعان إلى الدخيّل، والعيسى الذين قدموا من ثرمداء، وحفروا البئر المسماة الفشخاء باسمها وتعرف أيضاً بأم فرغين ومنهم كنعان بن عيسى الذي ذكره ابن بشر في عنوان المجد (ح 1191هـ ج1 ص 134)، والحسانا، والعيسى الذين قدموا إليها من الحصون.
كان عدد من شباب المجمعة - آنذاك - يتطلعون للعمل في شركة أرامكو، بعد أن انتشرت عنها سمعة واسعة في قبول من يرغب أن يعمل في قطاعاتها، وتتولى في البدء تدريبه على نوع المهمة أو الوظيفة التي سيلتحق بها، وكانت تمنح رواتب ومكافآت عالية، بالنسبة لمقاييس ذلك الزمن.
سأل والدي عام 1369هـ- 1949م أحد شباب قريتنا: لماذا لا تذهب للعمل في الظهران مع من ذهب؟ فأجاب: بودي أن أسافر إلى هناك، ولكني لا أملك أجرة السيارة، فأعطاه خمسة عشر ريالاً عربيّاً (فضة)، كانت الأجرة زهيدة، فالتحق بشركة أرامكو، وعمل فيها سنوات كثيرة حتى تقاعد، وأتقن اللغة الإنجليزية مشافهة. ومدينة الثقبة كانت هي المنزل المفضل للموظفين الذين التحقوا بأرامكو والشركات التابعة لها من أبناء بلدة المجمعة وقرية الفشخاء، سوى من سكن منهم في الخبر والدمام.
والرعيل الأول الذين التحقوا بالشركة قضوا نحبهم إلا من كتب الله له طول العمر، ولا يزال كثير من أبنائهم وأحفادهم يعيشون في المنطقة الشرقية.