لاحظ الإنسان منذ القدم تأثر جهازه الهضمي بحالته النفسية العصبية، وظهر ذلك في مقولاته وأمثاله الشعبية. فيقال: تفطّرت كبد فلان قهراً مما حصل له، أو حصل له ما يفتِّت الأكباد، ومعناها كما في المعجم الوسيط: مُحزِن جدًّا. وقبل ذلك قال تعالى في محكم التنزيل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (4) سورة البلد: قال ابن جرير: المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها.
وقد أكدت ذلك لاحقاً العديد من الدراسات منذ بدايات القرن العشرين. ولذا يؤكد الباحثون حالياً على أن الدماغ الثاني للإنسان يقع في قناته الهضمية؛ وذلك نتيجة لحجم العلاقة الوثيقة الهائلة المتبادلة بين دماغ الرأس والقناة الهضمية على مختلف المستويات العصبية والمناعية والهرمونية.. الخ.
وعلى سبيل المثال، أظهرت العديد من الدراسات الحديثة وجود دور محوري للعوامل النفسية في الفيزيولوجيا المرضية للداء الالتهابي المعوي بنوعيه الرئيسيين داء كرون والتهاب القولون التقرحي، وبالذات دور الإجهاد النفسي كعامل رئيسي في تدهور مساق المرض وكثرة انتكاساته. كما تؤثر هذه العوامل النفسية على كيفية تعامل المرضى مع هذه الأمراض المزمنة والمقعدة عن العمل.
وعندما يصاب المريض بهذا المرض فإن مساقه وانتكاساته المفاجئة وغير المتوقعة والمزمنة تتسبب في كثير من المعاناة النفسية والبين شخصية لدى المرضى. ومن مظاهر ذلك، فقدان السيطرة على الأمعاء، والشعور بالإعياء، واهتزاز صورة الجسد، والإحساس بالاتساخ والتلوث، والخوف من نقص القدرة والجاذبية الجنسية، وفرط الاعتمادية على الآخرين والانعزال، والشعور بأنهم أصبحوا يشكلون عبئاً كبيراً على المحيطين بهم. ويؤدي سلل البراز وفقدان السيطرة على الأمعاء بالذات لفقدان الثقة بالنفس ووصم المريض لنفسه بالعار.
كما أن تعامل المرضى مع هذه المخاوف يحتاج للدعم الاجتماعي من المحيطين بهم، كما يحتاج المريض لاستعمال إستراتيجيات تكيف مناسبة، كأسلوب حل المشاكل، وإعادة التقييم الإيجابي للمحن التي يمر بها المريض؛ ولكن الحاصل أن بعض المرضى يهربون من مواجهة مشاكلهم بشتى الطرق الممكنة. ولذلك يؤدي كل ما سبق لتفاقم الشعور بالكدر النفسي، وصعوبة التكيف مع المرض بشكل عام، وضعف جودة الحياة التي يعيشونها.
ومن العوامل المؤثرة في تكيف المرضى نوعية سماتهم الشخصية.فكثيراً ما يتصفون بالعصبية والقلق وتوقع الأسوأ وتطلب الكمال، مما يفاقم من ردة فعلهم تجاه الضغوط الحياتية، والشعور بحتمية أن يكونوا بخير ويبدو بأحسن حال دوماً وأبداً. كما أن بعض المرضى لديهم ما يسمى بـ(الحبسة المزاجية)، وتعني صعوبة التعرف على الانفعالات والمشاعر الداخلية، والتلفظ بها، وكذلك ضعف القدرة على تنظيمها، والتعبير عنها.
ونظراً لتعدد الهموم والمخاوف التي تم ذكرها آنفاً، بالإضافة لإدراك المرضى لمآل المرض الغامض وعدم قابليته للشفاء التام، ومخاوفهم من الخضوع لعمليات جراحية أو نشوء خلايا سرطانية؛ فإن كل ما سبق يساهم في نشوء القلق لدى بعض المرضى. وعندما يفتقد المرضى لاستراتيجيات التكيف الصحية أو الدعم الاجتماعي الكافي، فقد يصابو بالإحباط ويتجنبوا الاختلاط بالناس. كما أن الشعور بفقدان السيطرة على الذات أو الكفاءة الذاتية قد يتسبب بالشعور بالعجز وفقدان الأمل مما يتنهي بالمريض بحالة من الاكتئاب.
وتذكر بعض الدراسات أن ثلث المرضى بالداء الالتهابي المعوي قد يصابون باضطراب الاكتئاب الجسيم أو اضطرابات القلق؛ إما نتيجة للفيزيولوجيا المرضية للداء الالتهابي المعوي، أو علاجاته بما فيها الكورتيزون، أو تأثيراته على جودة الحياة.كما أن الإصابة باضطراب الاكتئاب الجسيم أو اضطرابات القلق يؤثر سلباً على مساق المرض ومآله.
كما أظهرت الدراسات تدهوراً في جودة الحياة التي يعيشها المصابون بالداء الالتهابي المعوي وبالذات داء كرون، ويرجع ذلك لعوامل مرتبطة بالمرض ومضاعفاته وعلاجاته، كما تلعب المضاعفات النفسية الاجتماعية دوراً كبيراً في ذلك. وتبعاً للمعنى الشخصي للمرض، والمواقف والتوقعات الفردية، وعزو المرض لعوامل داخلية أو خارجية؛ يتفاوت المرضى في نوعية همومهم ومخاوفهم وبالتالي تكيفهم مع المرض.
وقد أظهرت الدراسات أن إدماج التدخلات العلاجية النفسية ضمن العلاج الطبي التقليدي للداء الالتهابي المعوي يفيد المرضى من جميع النواحي. وفيما أثبتت عدد من مضادات الاكتئاب أنها آمنة وفعالة في علاج الاكتئاب والقلق لدى هؤلاء المرضى، فقد ساعدت كذلك في علاج بعض الأعراض الجسدية كآلام الجسم بما فيها البطن، وصعوبات الإخراج، بل إن بعضها قد يقلل من التهابات الجهاز الهضمي. ومن التدخلات المفيدة كذلك استعمال أنواع العلاج النفسي الفردي والجماعي بما فيها العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج الديناميكي. وتفيد هذه العلاجات في تعزيز شعور المريض باستعادة السيطرة على مجريات حياته بما فيها مرضه؛ وذلك بتثقيفه بمؤشرات الإصابة بالإجهاد النفسي، واستعمال تقنيات الاسترخاء والتأمل وعلاج الحد من الإجهاد القائم على اليقظة الراضية. كما أنها تعزز من قدرته على استعمال تقنيات حل المشاكل ومواجهة الضغوط بدلاً من تجنبها أو رميها على كاهل الآخرين، وكذلك إعادة هيكلة التفكير بالبحث عن المنح في طيات المحن بدلاً من المحاولات اليائسة لتغيير البيئة المحيطة بالمريض. كما تساهم التدخلات العلاجية النفسية بتعزيز ثقة المريض بنفسه مما يعزز كفاءته في مواجهة الضغوط وكدر المرض، ويحسن جودة حياته ككل.
** **
أستاذ مشارك بكلية الطب - جامعة الملك سعود بالرياض - واستشاري الطب النفسي والطب النفسي الجسدي