عبدالله بن سعد العمري
قبل الشروع في كتابة هذه الخواطر، كنت قد فكرت ملياً في النتائج التي أرجو للقارئ الكريم أن يتلقاها. وهي مزيج من العلم بعض الشيء عن الدائرة الضيقة في حياة الأسرة المالكة السعودية. هذه الخواطر التي كنت أعتزم كتابتها ونشرها بالإنجليزية لما لمثلها من تأثير خاص في الشارع الغربي، فضّلت أخيراً أن أكتبها باللغة العربية في هذه الجريدة المتميزة. ولعل النتائج المرجوة من هذه الخواطر تتلخص في فهم الناس لواقع أبناء القيادة - حفظها الله- وهو الواقع الذي يمليه عليه دستورنا من الكتاب والسنة، بل هو ما مكَّن هذه الدولة المباركة من البقاء شامخة، أصلها ثابت وفرعها في السماء.
يُحدث الخاصة جدي لأمي الشيخ المعروف بـ حمدان بن عكلب - حفظه الله- عن عمر يناهز الآن 115 سنة، وقد تولى رئاسة الهيئة في القصر الملكي في وقت مبكر من عهد الملك عبدالعزيز لبضع سنوات وكذا إمامة مسجد القصر والمرافقة الشخصية لجلالته وأخته نوره، أن جلالة الملك المؤسس كان يلزم أبناءه الموجودين بصلاة الفروض في المسجد، بالإضافة إلى تعلّم القرآن والسنة والعلم الشرعي، وهو ما يؤكد حرص جلالة المؤسس منذ عهد التأسيس على تدريب أبنائه من بعده لممارسة العبادات الدينية في وقتها، حيث أداؤها يوقر في القلب خشية الله، فإن الحاكم إذا لم ينله من خشية الله نصيب كان حظه من ظلم العباد أوفر من الرفق بهم. وهو ما نراه من مناظر محزنة تحدث في سوريا، فحاكمها لم يراع الله طرفة عين في شعب تشرَّد منه حتى الآن أكثر من سبعة ملايين شخص، وقتل ما لا يقل عن 300 ألف مدني حسب إحصاءات الأمم المتحدة.
هذا التهذيب الديني والتربية القوامة بالعدل والإنصاف شاهدنا أمثلتها فيمن خلف الملك المؤسس حتى يومنا هذا، فالملك سعود - رحمه الله- كان محباً للناس ومعطياً جزلاً يفرح الناس به أينما ذهب وأينما حلّ، وأما الملك فيصل فإن همه السامي في استعادة الأقصى قد غطى على كل مناقبه العظيمة، وكان الملك خالد -رحمه الله - وعضده الملك فهد نموذجين للإخوة الذين بادرا بدعوة الرؤساء العرب ليتعاهدوا أمام الله في الحرم المكي بأن يتصالحوا وألا يجعلوا للدنيا ولا للافتراق نصيباً من كلمتهم ووحدتهم. لا شك أن خطاب الملك خالد في الحرم سنة 1401هـ هو مدرسة في رؤية الملك الصالح الذي أجهش الجميع بالبكاء نتيجة إحساسه الصادق بمسؤوليته أمام الله. كما يوضح مقطع فيديو في اليوتيوب تفاوض الملك فهد مع شخص لم يرض أن يبيع بيته لغرض توسعة المسجد الحرام. فكان الملك - رحمه الله- متواضعاً رحيماً لم يزل يحاول في الرجل دون أن يضغط عليه، بل كان يسايره برفق كبير. إن هذا بلا شك تهذيب ديني وأخلاقي عظيم يوضح الوقوف عند حدود الله من ملوك هذه البلاد. ومن النهج الديني الملتزم والصادق مع النفس ما رواه وزير الصحة السابق د. عبدالله الربيعة عن أن الملك عبدالله - رحمه الله- في آخر ساعات حياته وعلى رغم شدة المرض عليه وقد ناهز الـ 95 عامًا أصر على نزع غطاء الأوكسجين وتهيئته كي يؤدي بطمأنينة صلاة الفجر وفي وقتها. وأما الملك سلمان - حفظه الله- فإن المصحف لا يفارق له سيارة أو بيتاً أو مكتباً أو طائرة، فهو دستور عظيم لطالما أكد - حفظه الله- على أن دولتنا تعتمده نهجاً وأسلوباً وحياة.
بعث إليّ يوماً صديقي الرحّالة عبدالله الجمعة مقالة له بهدف تنقيحي لها، وفيها أن الملك سلمان - حفظه الله- حينما كان ملازماً لأخيه فقيد الوطن الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله- في أمريكا، يقول: وردني اتصال هاتفي وأنا واقف في عربة قطار مزدحم داخل لندن، لأتفاجأ فيه بصوت الملك سلمان - حفظه الله-، يقول لي فيها إنني قرأت كتابك «عظماء بلا مدارس» هنا في أمريكا وأعجبت بما جاء فيه، ثم ذكر الملك بعض الشخصيات من التاريخ التي دخلت التاريخ ولم تلتحق بالمدارس. قلت: لا شك أن صانع القرار حينما يجد وقتاً للقراءة بين مزاحم العصر وتحدياته لهو من تنظيمه وحسن تدبيره لنفسه ولرعيته. هذه التربية القويمة من الأب جلالة الملك المؤسس قد انتقلت أيضاً إلى الأحفاد، وهم من يمثّلون الآن المرحلة الجديدة من القيادة، فجلُّ أحفاد الملك المؤسس يتناغمون سناً وتعليماً مع الشريحة الأكبر من الشعب السعودي وهم من سن 20- إلى 50 .
أذكر مرة أنه مع الأمير خالد الفيصل غاب عنا إمام المسجد الخاص به، وكان بيني وبين الأمير عادة شخص أو شخصين في الصف الأول، فالتفت الأمير وسأل عن الإمام حينما أقيمت الصلاة فقالوا لم يحضر، فتأمل الأمير لحظة في الوجوه وهي تعج بالمشايخ والمسؤولين وغيرهم، فنادى رجلاً يعرفه طاعنا في السن من الموظفين يقف في الصفوف الخلفية، فقال له: صل يا «فلان»، فصلى بنا فقرأ سورة الفجر وقسمها على ركعتي العشاء, فكسّر فيها وأضاف وأنقص وتقدّم وتأخر ربما خوفاً ورهبةً من الموقف, فلم يصحح له الأمير كي لا يزيد وضعه سوءاً, لأن الأمير اعتاد أن يصحح أدنى الأخطاء في الآية لحذاقته وحفظه كما ذكر لنا عمي معالي الشيخ محمد بن عبدالله العمري يوماً وهو يصلي بجانبه قبل حوالي عشرين سنة أنه صحح للإمام خطأً في تنوين الآية!
لا شك أن إلمام هذا الجيل من القيادة بفن التعامل مع مختلف الظروف والمواطنين هو أمر لا يجيده آخرون ممن حكموا شعوبهم وفشلوا.
ومما أعرف هنا في جيل الأحفاد أن الصديق الجليل والشاب الصالح سمو أمير منطقة عسير الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز كان إذا دخل الإمارة في الصباح انعزل في مكتبه لدقائق معدودات لتأدية ركعتي الضحى ثم يتصل بوالدته الأميرة صيتة الدّامر - رحمها الله- للاطمئنان عليها كل يوم، وهي والدته الصالحة زوجة الملك الصالح خالد بن عبدالعزيز التي وصفها الملك سلمان بعد موتها بأنها أم عظيمة نادرة في النساء. إنه لشيء عظيم حقاً أن يكون أمراء المناطق على هذه السجية مع الله ورضا الوالدين، ليبدأوا بعدها باستقبال المواطنين.