رقية سليمان الهويريني
إن أبسط مبادئ الوسطية في رؤيتها الشمولية هو تأكيدها على أن قيام التكاليف الشرعية بعمومها ليس على درجة واحدة أو شكل واحد؛ فهناك درجات متفاوتةٌ وأشكال عديدة من التّكاليف المتداخلةٌ، لذا جاء الأمر الرباني بحثّ الأنبياء عليهم السلام على التزام منهج الوسطية وتنويع أساليبهم في الدعوة؛ ليتحقق التأثير والإقناع؛ لأَن مهمتهم لا تنحصر في حشد جوانب الفكرة وإيصالها للناس؛ وإنما في تحرِّي سُبل التأثير من أَجل إقناعهم، ونقل الفكرة من نطاق العرض إلى مجال الإفهام، ومن ثم التطبيق.
وذلك المفهوم يدعونا لتحرير منهج الوسطية، وبيان أهميته في استقامة أُمور المجتمع من التفرق وتعدد الرؤى، وإبطال الادعاء بالانتساب إليه كشعار، وتتبع المسائل الفقهية ودراستها من خلال عرض الأقوال المعتدلة والحسنة فيها من النصوص الشرعية. تأكيداً لقوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).
وهذا ما يدعو للعناية بمسألة التكفير؛ وعدم إطلاقها دون موافقة النصوص المعتمدة على شروط التكفير، فلا يحكم فيه بالظنون والأهواء! ولن يتأتى ذلك إلا بفتح باب الحوار والمناقشة؛ لتحرير الأفكار من تبعية حملات التشويه والتضليل، ولوقاية المجتمعات من الإرهاب والعنف والكراهية.
ولقد اتسع صدر الأدب الإسلامي لكل جديد منذ بزوغ شمس الرسالة المحمدية، وشرع أبوابه لجميع الثقافات والمعارف؛ انطلاقاً من أن مفهوم الوسطيةُ لا يعادي الجديد، ولا يقف ضد الإبداع؛ طالما استندت ثقافة الاختلاف في المجتمع على الفروع الفقهية دون أصولها.
ولكي يتم تأصيل منهج الوسطية كفكر يسود العقول وبرنامج عمل يمارسه أفراد المجتمع؛ فإن الأمر يتطلب عقد دورات وورش عمل من قِبل مختصين للتعريف بالوسطية والدعوة إليها بحكمة وتأنٍ وخطوات مدروسة لتحقيق الوسطية المطلوبة كنظام حياة، مع التأكيد على أهمية اضطلاع الوالدين بتربية أبنائهما على منهجها واتباع أسلوب الحوار والإقناع داخل الأسرة؛ لينشؤوا قادرين على مواجهة التَّحديات والمغريات بقناعة ويقين، وإعدادهم إعداد سليم لوقايتهم من التكفير والتشدد، أو اللامبالاة والتهاون والضعف أو حتى الحيرة. وينبغي العناية بقطاع الشباب؛ لإنقاذهم من نزعات الشك، وزعزعة الثوابت واليقينيات وازدراء الأديان أو التطرف والغلو والإرهاب.