وإذا تأملنا في أمثلة أنماط الثقافة التي تُساق في وسم هوية الحجاز على أن « الأصالة « متمثلة فيها وأنها هي وحدها المعبرة عن هوية الحجاز الثقافية، وأن غيرها من أنماط تفتقد في اعتقادهم أصالة الهوية ؛ نجد الأمر مجرد دعاوى لا تقوم على براهين، بل تردها البراهين. وسنثبت ذلك باختصار من خلال أمثلة في بعض أنماط الثقافة التالية ليقاس عليها غيرها:1 ـ اللغة:
يظن منشئو وسم «هوية الحجاز» أن لهجات القبائل الحجازية وغيرها من قبائل الجزيرة صافية من أي تأثر بغيرها من اللهجات واللغات، وهذا وهم ، ويكفي لبيان بطلانه مراجعة تاريخ العربية الفصحى ليعلموا أن العربية لم تكن في مرحلة من مراحلها بمعزل عن التأثر والتأثير، فقد دخلت في علاقات لغوية وثقافية مع الفارسية والسريانية والهندية والحبشية وغيرها كما هو مقرر في مصادر فقه اللغة القديمة والحديثة .(انظر مثلا : فصول في فقه العربية ، رمضان عبدالتواب ، 46 ـ 49) .
وقد أجمع علماء اللغة والأدب والتاريخ ـ كما قال ابن فارس ـ على أن اللغة القرشية الحجازية نشأت بالاختيار من لغات العرب والوافدين إلى الحجاز للمواسم وغيرها، ويعللون تميز قريش بالفصاحة بهذا الاختيار من كلام الناس وأشعارهم. (انظر الصاحبي في فقه اللغة 33 ـ 34). والحقيقة أن عملية الفصاحة أشد تعقيدا مما تصوره ابن فارس وغيره من القدماء على أنه مجرد اختيار لغوي ؛ بل هو تركيب انتخابي لغوي ثقافي معقد يقوم على ثنائية «الاصطفاء» و«الترك / الهجران» وصولاً إلى مركب لغوي ثالث، ويتم في إطار العقد اللغوي وتحت مظلة المقاصد اللغوية الكبرى، وله آلياته التي يتحقق بها العرف اللغوي. (عن الانتخاب اللغوي انظر: نظرية العرف اللغوي ، 149 ـ 152) . ومن الآليات اللغوية التي سلكتها العربية للتعايش الثقافي وتكوين البنية الخاصة بها لغويا وثقافيا آلية «التعريب» ، فعرّبت كثيرا من الألفاظ الأعجمية وأدخلتها في متنها اللغوي ومنظومتها الثقافية.
و«التعريب في فحواه سلوك لغوي يدل على سلوك ثقافي يظهر على الإنسان حينما تحتك حضارته بحضارة غيره ، فهناك على حدود اللغات المتماسّة تقوم سوق لغوية مشتركة ، شريعتها تبادل المنافع والسلع اللغوية مع كل تبادل للمنافع الحضارية والثقافية الأخرى» (انظر: السابق 105 وما بعدها).
والقرآن نفسه ـ وهو أبلغ نص عربي ـ استعمل المعرّبات كما هو معلوم، كمِشكاة واستبرق وسندس والحَوارىّ وبرهان وصَرْح وجهنم والرَبّاني وإبليس وإنجيل...إلخ . (على خلاف في بعضها. ويُنظر في ذلك كتب المعرّب). فإذا كانت العربية الفصحى في عصر الاحتجاج قد تركبت من عملية انتخاب من لغات عربية (لهجات) ، وعُرِّب إليها ألفاظ كثيرة من ألسنة أعجمية ، وكانت «الفصاحة» ناشئة من عملية الانتخاب اللغوي ؛ فاللهجات العربية الحديثة ــ في الحجاز وفي غيره ــ لن تخرج عن سنة أصولها اللغوية ، ولن يكون لها سبيل في التطور والفصاحة ــ إذا تحدثنا عن التأصيل والارتباط بالهوية - غير سبيل جذورها .
2 ـ الملابس : ( العمامة والغَبانة والشال وغيرها):
أكثرَ مغردو وسم «هوية الحجاز» من الحديث عن العمامة الحجازية «الأصيلة» مقابلين بها الغَبانة التي وصفوها بالدخيلة على ثقافة الحجاز ، ورفضوا أن تدخل في نطاق الثقافة الحجازية ، وأصروا على جعلها ـ في حالتها الثقافية الراهنة ـ جزءا من الثقافة الهندية ولا تمتّ إلى ثقافة الحجاز بصلة . وهذه الدعوى مبنية على معيار الأصالة الذي ذكرنا آنفا أنه غير موضوعي ولا يصلح الاعتماد عليه في قضية تحديد الهوية الثقافية، سواء فُهم فهما زمنيا أم مكانيا أم أغلبيا أم كل ذلك مجتمعا. ولو قُبل هذا المعيار لأدى ذلك إلى نتيجة لا تسر القائلين به؛ فستصبح العمامة بكل أنواعها وأشكالها دخيلة على الثقافة العربية القديمة فضلا عن ثقافة الحجاز الحديثة التي تحولت فيها العمامة القديمة إلى أشكال تختلف كثيرا أو قليلا؛ لأنهم عللوا رفضهم كون الغبانة نوعا من أنواع العمامة الحجازية بأنها تشابه أصلها الهندي المخطط بالصُفْرة ، ورفضوا أن يعدوا ما يلبسه لابس الغبانة من قماش يشد به وسطه من ضمن التراث الحجازي ، بدعوى أن قبائل الحجاز لا تلبس هذا اللبس ، والحقيقة أنهم بهذا الحكم خالفوا مبدأهم الذي وضعوه لأنفسهم وهو مبدأ الأصالة ؛ فقد «كانت السادة من العرب تلبس العمائم المُهَرّاة وهي المصفّرة». قال الشاعر:
رأيتُكَ هَرّيتَ العمامة بعدما
عَمَرْتَ زمانًا حاسرًا لم تَعَمَّمِ
(بلوغ الأرب للألوسي ، 3 / 408). وهراة مدينة في المشرق ، في أفغانستان الآن. وفي لسان العرب: «قال الأزهري: معناه جعلتَها هَرَوِيّة ، وقيل: صبَغْتَها وصفّرتَها، ولم يُسمع بذلك إلا في هذا الشعر. وكانت سادات العرب تلبس العمائم الصُفر، وكانت تُحمل من هراة م صبوغة ، فقيل لمن لبس عمامة صفراء: قد هَرّى عمامته ، يريد أن السيد هو الذي يتعمم بالعمامة الصفراء دون غيره. وقال ابن قتيبة: هرّيت العمامة: لبستها صفراء» (لسان العرب ، هـ ر ا).
فثقافة اللباس العربي منذ الجاهلية كانت تعرف التلوين في الثياب عموما وفي العمامة خصوصا، بل كان ذلك عرفًا لدى أشرافهم وساداتهم. وسُمي سيد تميم الزِبْرِقان بن بدر بهذا الاسم لأنه كان يُعنى بتنميق لباسه وزَبْرَقة عمامته بالصفرة فسُمي الزبرقان (وقيل في تعليل التسمية أقوال أخرى)، يُقال: زَبْرَقَ الثوبَ أي صبغه بحُمْرة أو صُفْرة (انظر معجمي الصحاح والقاموس المحيط).
وزعم الثعالبي (وتابعه الألوسي ناقلا كلامه دون إشارة إليه !) أن هذا التفسير من الأزهري لقول العرب : «عمامة مهرّاة» من اختلاقه تعصبًا لأصله الفارسي ! قال: «زعم الأزهري أن تلك العمائم المهرّاة كانت تُحمل إلى بلاد العرب من هراة، فاشتقوا لها وصفا من اسمها، وأحسبه اخترع هذا الاشتقاق تعصبا لبلده هَراة، كما زعم حمزة الأصبهاني أن السام: الفضة، وهو معرّب عن سيم، وإنما تقَوَّلَ هذا التعريب وأمثاله تكثيرا لسواد المعرّبات من لغات الفرس وتعصبًا لهم» ! (فقه اللغة وسر العربية 251).
وأُجْمِلُ الرد على الثعالبي فيما يلي:
1 ـ الأزهري اجتهد في تفسير الاشتقاق، وهذا يسمى رأيا لا اختراعا ولا تقوّلا ! ولو كان تفسير الاشتقاق بالتعريب تقولا واختراعا لكان كل أئمة العربية المصنِّفين في التعريب متقوِّلين مخترعين ! نعم يكون تقولا واختراعا لو نَسَب تفسيره إلى العرب، لكنه لم يفعل ذلك، وحاشاه.
2 ـ تفسيره مقبول، بل هو أظهر ما قيل في تفسير الكلمة.
3 ـ لم يعترض أحد من اللغويين فيما رأيت على تفسير الأزهري .
4 ـ اكتفى الثعالبي بنقد الأزهري ؛ بل بالطعن فيه بالشعوبية ! دون أن يقدم ما يراه التفسير الصحيح !
5 ـ عجيبٌ من الثعالبي أن يعد هذا التفسير من الأزهري تكثيرا لسواد الفارسية في العربية وهو نفسه قد عدّ في الباب الذي عقده في الثياب المصبوغة التي تعرفها العرب (وهو الباب الذي رمى فيه الأزهري بالشعوبية) بضعة مفردات تدل على استعمال العرب الثياب المصبوغة بالصفرة والحمرة ، والمعروف أن التجار يجلبونها إلى بلاد العرب من خارجها ؛ إذ لم تكن العرب تمارس الصباغة وغيرها من فنون الصنائع في ذلك الوقت ، ومن تلك الألفاظ التي ذكرها الثعالبي قولهم: ثوبٌ مُجسّد ؛ أي مصبوغ بالجَساد ، وهو الزعفران ، وثوبٌ مُبَهْرَم ؛ أي مصبوغ بالبَهْرَمان (وهي كلمة معرّبة من الفارسية ، وهي صبغ أحمر) ، وثوبٌ مُوَرّس ؛ أي مصبوغ بالوَرْس ، وهو أخو الزعفران. (انظر: فقه اللغة للثعالبي 251) ، فما الغريب المستنكر لدى الثعالبي في أن يُقال إن «العمامة المُهرّاة» محمولة من هراة وهو يعلم أن جلّ أدوات الحضارة ووسائلها مصنوعة ومحمولة إلى بلاد العرب من خارجها؟!
6ـ أما الطعن في الأزهري بالتعصب للعرق الفارسي واتهامه بتكثير سواد الفارسية في العربية فهذه تساوي النبز بالشعوبية ، وهي تهمة خطيرة يتحمل مسئوليتها الثعالبي ومن وافقه عليها ، أما الرجل فلم يُعرف عنه ما رماه به الثعالبي ، وكيف يُرمى بهذا صاحب «التهذيب» أحد أركان «لسان العرب» ؟!
على أنا لو سلمنا بصواب دعوى الثعالبي أن العمامة المهرّاة لا صلة لها بهَرَاة ، فإن ذلك لا يضر بأصل الفكرة ، لثبوت استعمال العرب لكثير من الثياب والعمائم المصبوغة بالصفرة والحمرة على وجه العموم بقطع النظر عن خصوص العمائم المهراة.
وكذا القماش الذي يشد به لابس الغَبانة وسطه ليس بغريب عن ثقافة الحجاز القديمة، بَلْهَ ثقافة الحجاز الحديثة ! فإن العرب «ربما شدوا على أوساطهم عند المَجْهَدة وإذا طالت العقبة.. قال الشاعر:
خليليَّ شُدّا لي بفضل عمامتي
على كبدٍ لم يبقَ إلا صميمُها
(انظر بلوغ الأرب 3 / 412).
وأصحاب وسم «هوية الحجاز» يظنون أن أنماط الملابس وسائر أنماط الثقافة كانت موحّدة عند قبائل الحجاز وغيرها من قبائل العرب، والحق أنها لم تكن كذلك لا في العصر الجاهلي ولا فيما تلاه من عصور ، إلى عصرنا الحديث قبيل قيام الدولة السعودية، وإلى وقتنا المعاصر ؛ فالبادية عموما كان لهم لبس غالب عليهم وهو «لبس المخيط في الغالب، ولبس العمائم تيجانا على رءوسهم، وربما ألقوا رداء على ظهورهم واتّزروا بإزار. وأما أهل الحضر وسَكَنة المدر منهم فكانوا يتفننون في لبوسهم ، ويختلفون في كسوتهم ؛ فكان الكاهن لا يلبس المصبغ، والعرّاف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحَكَم لا يفارق الوبر، والشاعر منهم كان إذا أراد الهجاء دهن إحدى شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة، وكان لحرائر النساء زِيّ ، ولكل مملوك زي ، ولذوات الرايات زي...والمقصود أنهم مختلفون في اللباس والزي والسِيماء ، حتى إنهم اعتبروا ذلك في غيرهم مما يخصهم ...وكذلك الكلام على فرشهم وأرائكهم وما يتصل بذلك.. » (السابق 3 / 406 ـ 408).
ومع أن «العرب لم تزل تلهج بذكر النعال، والفرس تلهج بذكر الخِفاف» (السابق 3 / 413) لكن العرب لبسوا الخفاف، وهذا معلوم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام. فكما أنه لا يقال إن الخف نمط ثقافي دخيل على ثقافة العرب، ولا أن العمائم المصفرة والمحمّرة التي كانت تجلب من الهند وفارس وغيرها نمط أجنبي دخيل؛ فكذلك لا يصح أن يقال إن الغبانة والصديرية ورباط الوسط والشال الذي يوضع على الكتف نمط ثقافي هندي أو جاوي ولا صلة له ألبتة بثقافة الحجاز.
والفيصل بين نسبة ظاهرةٍ معينة إلى ثقافة معينة ونفيها عنها يتبين إذا قرنّا هذه المسألة الثقافية البحتة بمسألة التعريب اللغوية، فجوهر المسألتين واحد وإن اختلف الموضوع ؛ فالتعريب آلية لغوية يتم بها إخضاع اللفظ الأجنبي لقواعد اللغة العربية صوتيا وصرفيا ؛ فمثلا كلمة «إسْتَبْرَق» عُرِّبت من «اِسْتَفْرَهْ» الفارسية، فأخضِعت صوتيا بإبدال الفاء الفارسية باء عربية، وبإبدال الهاء الفارسية قافا عربية. وأخضعت صرفيا بصبّ الكلمة في قالب مطابق لوزن من أوزان العربية وهو «استفْعَل». وكذلك في تعريب كلمة television إلى «تِلفاز»؛ أخضعت الكلمة صوتيا بإبدال / v / إلى / ف / ، وأما الصوت الذي يشبه / j / وتمثّله المجموعة الكتابية : «sio» في المقطع الأخير من الكلمة فقد عُرّب بتحويله إلى حرف / ز /. وأخضعت الكلمة صرفيا بصبّها في قالب عربي وهو وزن «تِفْعال». وكذلك الأمر ـ فيما نرى ـ في الثقافة ؛ فهناك ما أسميه: «التعريب الثقافي» لأنماط الثقافة الأجنبية ، وهو آلية ثقافية يتم بها إخضاع الوسيلة الثقافية الأجنبية لقيم الثقافة العربية ومقاصدها.
وتتفاوت مستويات التعريب الثقافي من بيئة عربية إلى أخرى، كما تتفاوت مستويات التعريب اللغوي، فالبدلة الأجنبية المكونة من جاكيت وبنطال عُرِّبت ثقافيا في الأردن بلباس العقال والشماغ، وأصبح العرب في الأردن حينما يلبسون الشماغ والعقال على البدلة ـ وربما أضافوا العباءة ـ يرون أنهم يمارسون في اللباس نمطا ثقافيا له حكم النمط العربي ولا يرونه دخيلا أجنبيا ، لأنه لم يعد بشكله الغربي الأول بل أخضع لتعديلٍ ما وَفق رؤية ثقافية مقاصدية معينة. وكذلك حينما يلبس العربي الجاكيت على الثوب ، ويلبس مع ذلك الجزمة المصنوعة في الشرق أو الغرب ، فهو يعد لبسه نمطا عربيا وإن كان لباسا حديثا مجتلبةً أجزاؤه من ثقافات أخرى ، لأن التركيبة الكلية كوّنت شكلا جديدا يعطي معنى ثقافيا مختلفا عن معاني أجزاء المركَّب قبل التركيب.
وكذلك لبس المشالح في ثقافة القبيلة (في الحجاز وغيره من بلاد العرب) يُعدّ في عرفها نمطا عربيا مع أنها كان «يؤتى بها من إيران» (انظر: موسوعة جدة 255) ، ولكنها تعرضت بعد دخولها في الثقافة العربية لعملية تعريب ثقافي بطريقة تصميمها وبما يقترن بها من ملابس أخرى تُكوّن في آخرَ الأمر تركيبةً نمطية متميزة عن لبس هذه المشالح نفسها في بيئة غير عربية.
- د . خالد الغامدي