في ثامن أيام رمضان أصبح كل شيء روتيناً، فلا أشعر بالجوع والعطش إلا قبيل الفطور بدقائق، وخلال الليل القصير نسبياً أنظر للمأكولات على الطاولة وفي المطبخ كأنها لا تعنيني حتى وقت السحور، أي أن ساعتي البيولوجية أصبحت مبرمجة لا ترن إلا وقت الفطور والسحور، وانتظم الجسد على نظام لا يقبل سواه.
لقد شعرت بهذا النظام في رمضاناتي السابقة، ولكني لم أنتبه للصحة البدنية المرافقة له، فالمعدة تتخلص من (الشاورما والهمبرغر) وما شابه من الفوضى الغذائية (الخلاقة)، ويتحرر الجسم من التخمة المقصودة وغير المقصودة! أي عندما يستضيفك زميلك الملحاح على شطيرة وقهوة بالحليب في غير موعدها، وإذا لم تستجب للدعوة يتهمك باللؤم على مبدأ «لا يرد الكريم إلا اللئيم».
الغريب أنك عندما تدعو أجنبياً على مثل هذه الشطائر ورفض، لا تتهمه أبداً باللؤم لأنه ببساطة تربى على نظام غذائي، وليس لديه أي استعداد لخرق ذلك النظام لمجرد أن الشطيرة بلاش. كما أنك قد تجده - حتى لو تجاوز راتبه الشهري المائة ألف ريال- يعيش في شقة كأي (يمني) لا يتجاوز دخله ألف ريال شهرياً! أما نحن فلا نقبل أن نعيش إلا ببيوت فارهة تشكل عبئاً ثقيلاً على كاهلنا!
إذن العبرة في الصيام ليس النظام الغذائي وحسب، إنما محاربة النفسية الاستهلاكية! وقد اختلف رجال الدين على مر العصور حول تقصير الثوب أو السروال، هل هو سنة مؤكدة أم مستحبة؟ ولكنهم اتفقوا على أن استطالة الثوب حلال إذا كانت خالية من الخيلاء! أي أن القماش الذي لا يستطيع الفقير في ذلك الوقت حيازته إلا بمقدار ستر عورته، بينما يطيله الغني من أجل أن يميز ذاته (الخيلائية) عن الآخرين، أي الاستهلاك، هو المقصود وليس شيئا آخر.
وصحيح أن هناك حديثا ضعيف السند عن النبي (ص): نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، ولكن المقصود متفق عليه من المفسرين هو الاقتصاد وعدم الإسراف بما نملك!
سبحان الله .. أنا أقول هذا الكلام وأنا واثق أني سوف أنساه في أول أيام العيد! فإذا دعاني صاحبي (المطوّع) الذي قصّر ثوبه الى ما قبل الركبة، أنا واثنين من الأصحاب على (قعود)، فلن أتأخر دقيقة واحدة عن العشاء! وسوف أعود الى الفوضى الغذائية والاستهلاكية الخلاقة! مع إدراكي أن هذا مكروه شرعاً، وسأتهم الجميع بالفوضى ما عداي! وسأصبّ جام غضبي على الأطباء (أولاد ....)، الذين لا يعرفون كيف يخفضون السكَّر في دمي، ولا الكرش (أبو نص متر) أمامي!
تمنيت لو يُسمح للمرأة بالسياقة كي تعرف شريكتي في الحياة مقدار المعاناة عندما نذهب لزيارة الأقارب، فإذا سلمت من الحوادث الخفيفة والثقيلة، وسلمت من ثقيل دم يسير بسرعة 7كم في الساعة أمامك دون اكتراث للحر واحتمال انتحار المكيف، لن تسلم من ارتفاع ضغط الدم والسكَّر، وكذلك (العركة) بعد العودة للبيت. الحمد لله -لدي سائق وزوجته الشغالة بالرغم من الغلاء الفاحش في الاستقدام، ولن أكترث إذا قيل عني استهلاكي! ولكني لا أستطيع التعامل مع السائق والشغالة باحتقار كما تحثني أم العيال، ولذلك أنا في تناحر دائم معها، ولم تنفع كل محاولات التثقيف الذاتي، وكأن الشغالة (ضرتها) بالرغم من أن الشغالة تعيش مع زوجها في الملحق، وهي تعمل في البيت أو المطبخ بكامل حجابها حسب توجيهات أم العيال ذاتها!
لماذا أحب محمد عبدو في أغنية «يا ليل خبرني عن أمر المعاناة»؟ فأنا واثق أن الاستهلاك هو السبب ولا أحتاج من الليل أو النهار أو اليوم أو الشهر أو السنة أو التاريخ أو الجغرافيا أو العلوم الإنسانية أن (تخبرني عن أمر المعاناة)! ... أعتقد أنني أحبها لأنها أغنية وليس تقريراً اقتصادياً، وإذا كنت أنا استهلاكياً ساذجاً فالناس ليسوا مثلي! كما أن بلدي يشجع الإنتاج وليس الاستهلاك! فلدينا الى جانب النفط الخام مصانع البتروكيمياويات والعديد من المصانع الإنتاجية الأخرى، وخاصة مصانع الأغذية! ... ولكن بالرغم من الإنتاج الهائل للأغذية، إلا أننا نستورد أضعاف ما ننتج! كل ذلك بسببي أنا وأمثالي! نطبخ أكلاً يكفي قبيلة ثم نرمي ثلاثة أرباعه للقطط، وإذا جاءنا ضيوف نتباهى بالكرم الحاتمي بكل ثقة!
سمعت عن شيخ من التاريخ قضى حياته كلها وهو يبحث في المعاني المتعددة لكلمة (حتى)، ثم مات وفي نفسه شيء من حتى، أما أنا فسأموت وفي نفسي شيء من (مندي).
- د. عادل العلي