خالد بن حمد المالك
اعتادت دولة قطر أن تختار الطريق الأصعب والأكثر تعقيداً في حل مشاكلها، بل التوجه نحو المستحيل الذي لا يُفضي إلى حل، فهي بذلك من يعقِّد أمورها، ويصلّب تمرير ما هو لصالحها، وهي في هذا إما مدفوعة، أو أن لاعبيها الكبار لا يجيدون فن الممكن في العلاقات الدولية، ولا يحسنون التعامل سياسياً بما تقتضيه أبجديات هذا العمل، حتى يصح أن يقال عنهم أنهم سياسياً بلا فهم أو استيعاب أو معرفة.
**
في أزمتها الآن، وهي دائماً في أزمات لا تتوقف، فما تكاد تخرج من أزمة حتى تجد نفسها غريقة في أخرى، دون أن تتعلم من الدرس، أو تستفيد من الأخطاء، أو تضيف لها أخطاؤها ما يجنبها تكرارها، مما يحيّر المتابع، ويجعل من هذا القلق على مصالح قطر موضوعاً حيّاً في ضمائر المخلصين لها، بينما نجد أن الدوحة سادرة في غيها، تلوِّح بمناوراتها الإرهابية، لا تفكر بأكثر من أن يكون اسمها في صدارة وسائل الإعلام، حتى ولو كان ذلك ضمن التركيز على أدوار إرهابية توصم وتُتهم بها.
**
ما الذي يجعل قطر هكذا، تتعامل مع الآخرين بوجهين، وبالتالي تضع نفسها في دائرة القلق والارتباك الدائمين، بينما كان من مصلحتها أن تكون ذات وجه واحد، وسياسة ثابتة، وتعامل نظيف، وتتعاون مع غيرها من الدول بشكل يكرّس القيم والإخلاص والصدق والفروسية، وينبذ كل ما يُشم منه رائحة الإرهاب والتطرف والعدوان، وصولا إلى بناء جسور من التعاون والتفاهم مع دول العالم، وتحديداً الدول الخليجية العريبة منها.
**
لا أحسن التعمق كثيراً في النفسية القطرية التي تدير الأمور في قطر، ولا عن تلك التفاصيل الكثيرة التي تجمع أمير قطر سياسياً وأمنياً بالفصائل والأفراد غير القطرية التي تقيم في قطر، وتجمعها بقطر أجندة واحدة، وليس عندي ما أبني عليه مقالاتي اليومية غير ما هو معلن من القطريين، وهو كثير ومهم وخطير، يجد الكاتب فيه مداخل غير عادية لفك الغموض الذي تحاول قطر أن تتستر عليه، بينما تفضحه التناقضات بين ما يقوله هذا المسؤول أو ذاك، وتلك التسجيلات التي لم تترك شيئاً يبرئ السلطة القطرية من أنها غارقة بما يدينها في أدوارها المشبوهة في دعم الإرهاب.
**
في أحسن الأحوال، يمكن القول إن قطر ضحية مؤامرة كبيرة ضد مصالحها من المحسوبين عليها، من الذين يبدون تعاطفهم معها، ممن تسمع منهم الكلام الجميل المخادع، فتنحرف نحوهم من يوم لآخر بأكثر مما هي عليه، محسنة الظن بهم، والثقة بمصداقيتهم، والشك مقابل ذلك بالأشقاء والأصدقاء الحريصين عليها، وكل هذا يندرج ضمن الانطباع بأن قطر أصبحت خارج السيطرة القطرية، إذ إن المؤشرات توحي بأن هناك هجمة غير قطرية على مفاصل القرار فيها، وتحييد المسؤولين القطريين واستخدامهم كما لو أنهم أبواق فقط في المساعدة على تمرير الإرهاب لدولنا على نحو ما نراه الآن.
**
نقول كل هذا بألم، لأننا بعد كل ما حدث من مراهقة سياسية قطرية اضطرت معها ثلاث دول في مجلس التعاون ومصر وغيرها إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، وليس هناك من موقف لقطر منذ ذلك الحين، وإلى اليوم، إلا التباكي على وضعها، وتكرار الاستعداد لقبول الوساطات، والترويج لذلك على لسان أكثر من مسؤول، مع معرفتها بأن هناك ريبةً وشكاً وعدم مصداقية لدى الأطراف الأخرى في الموقف القطري من الوساطات، ومن تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، بسبب تجارب سابقة معها، كانت في مجملها مريرة وأخلَّت بمصداقية الدوحة، وجعلت الجانب الآخر لا يجد في مثل هذه الوساطات، ولا في الاتفاقيات والتعهدات القطرية أي قيمة يعتمد عليها، مما يجعلنا نتساءل: ولم لا تتوسط قطر لنفسها، بدلاً من ترحيبها بوساطات غيرها؟
**
ألا يمكن لقطر أن تقوم بدور الوسيط لنفسها، أعني: ما الذي يمنع الشيخ تميم من المجيء إلى المملكة، ومقابلة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، والاعتذار له وللدول الشقيقة الأخرى عن كل ما أساءت به الدوحة لهم، والاستعداد للتوقيع على اتفاقية ملزمة لقطر وبالضمانات التي تريدها الدول التي قطعت علاقاتها مع قطر، والقبول بالشروط والطلبات التي تمليها المملكة والإمارات والبحرين ومصر لإقفال ملف هذه الأزمة إلى الأبد، مع عدم تكرار قطر لها في المستقبل، وأن تحمل الاتفاقية كل التفاصيل، وبدون أي ثغرات حتى لا تغري الدوحة بالتخلي عن التزاماتها، وهي مطالب عادلة تخدم كل الأطراف بما فيها قطر، وتجنب دولنا ومنطقتنا والعالم هذا الإرهاب الذي يجد الدعم والملاذ الآمن لدى قطر.
**
هذه هي الوساطة الحقيقية التي تختصر الطريق، وتنهي عملياً القطيعة، وتوقف قطر عن طرق أبواب العالم والتوسل لهم لإسماعهم البكاء، وما يزعمونه من أنه حصار وتجويع للشعب القطري الشقيق، فيما أن ما جرى إنما هو قطع للعلاقات لحماية دولهم من إرهاب قطر، وإذا كان هناك من ضرر ترتب على قطع العلاقات، فهذه مسؤولية القيادة القطرية، فهي من فرطت بمصالح الشعب القطري، وهي من حولت الدوحة إلى حاضنة لتفريخ الإرهابيين، وهي من آذت كل دول الجوار بالتدخل في شؤون الدول الشقيقة داخلياً، وحرضت أفراداً من مواطنيها ضد حكوماتهم، وأغرت بمالها من زعمت أنهم معارضة، بينما هم إرهابيون يأتمرون بما يُملى عليهم ضد مصالح دولهم.
**
هكذا تستطيع دولة قطر أن تتوسط لنفسها، وهو طريق ممهد وسهل ونتائجه فورية، ولا ينقص من قدر ومكانة قطر، وإنما يصحح وضعها، ويجنبها المسالك الوعرة، ويبقيها ضمن اللحمة الخليجية، ويحميها من غدر أعدائها، وستجد فيما لو كان هذا هو موقفها، القبول والترحيب والتعاطف من أشقائها، فلا أحد منهم يرضيه حالها الآن، أو يسعده أن تكون في قبضة عدوها وعدوهم، فهل تملك الدوحة الشجاعة لأخذ قرار تاريخي كهذا، فتتوسط لنفسها بمبادرات واقعية ومقبولة، تنهي بها كل مواقفها السلبية، منطلقة إلى مرحلة قادمة من العلاقات مع شقيقاتها تقوم على الاحترام المتبادل، ونبذ الفرقة وما تؤدي إليه من إرهاب وتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وغير ذلك مما هو مطلوب ومستحق عليها.
**
هذا بعض ما يمكن أن نخاطب به الضمير القطري، ونذكّر به ضمن مجموعة من المقالات التي حرصنا فيها على تجنيب قطر ما يكيده لها الأعداء، فالتحديات أمامها أكثر مما تتصور، والهروب منها لن يكون سهلاً إذا ما تغلغل الإرهابيون في مفاصل الدولة بقدر ما نراه الآن، واتسع في المستقبل بأكثر مما تقدره السلطات القطرية، وفي كل الأحوال فإن قطر وشعبها هما الضحايا للسياسة القطرية المتهورة، فلعل كلامنا يصل إلى آذانهم، ويؤثر في مواقفهم، فيبعدهم عن المياه الآسنة، والنيران المشتعلة.
**
إن مطالبة قطر بأن تنفض يدها من الإرهاب، وتخلي أراضيها من هؤلاء الإرهابيين، وتتوقف عن دعمهم، هي مطالب مشروعة، لا يطالب بها إلا من يحب قطر، ويحنو على شعبها، ويخاف عليها من أن تكون في قائمة الضالعين في تبني وتمويل الإرهاب أمام المحاكم الدولية المختصة، وحينئذ لن تكون أمامها من فرص كثيرة للخيار، ومن محاولات للتأكيد على براءتها، فالوقت ليس لصالحها، وتسارع الأحداث لا يخدمها، والتحديات المستقبلية أمامها غالباً ما تكون معيقة لأي حلول مفترضة، فعليها أن تتوسط لنفسها، فهذا أبلغ وأسرع من أن يكون الموقف تسويفاً قطرياً مع الوسطاء المقدَّر دورهم، كما هي وساطة الأمير النبيل الشيخ صباح الأحمد الصباح أمير دولة الكويت.