د. عبدالحق عزوزي
كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها العديد من المختصين عن أسباب تقدم دول وتخلف أخرى. فالفرق بيم الدول الغنية والفقيرة لا يعود أبدا إلى قدمها، فقد تجد دولا من أقدم الدول في التاريخ وهي فقيرة؛ أما دول كندا وأستراليا ونيوزلندا مثلا فلم تكن موجودة قبل 150 سنة، ومع ذلك فهي متطورة وغنية. كما لا يمكن السماح بمقولات ترتل النظرية التي تقول بأن فقر أو غنى الدول يرجع إلى مواردها الطبيعية. فاليابان دولة مساحتها محدودة جدة ولكنها تمثل ثاني اقتصاد العالم، ولا يخلو بيت من بيوتات العالم إلا وتجد آلة أو حاسوبا أو هاتفا صنع في هذا البلد؛ فاليابان عبارة عن مصنع كبير قائم على حسن التدبير وعلى الإستراتيجية الثاقبة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية، يستورد كل المواد الخامة لإنتاج مواد مصنعة تصدرها لكل أقطار العالم؛ ونأخذ بلدة أوروبية وهي سويسرا. فبالرغم من عدم زراعتها للكاكو فإنها تنتج وتصدر أفضل شوكولا في العالم؛ كما أنه رغم طبيعة جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية فإنها تنتج أهم منتجات الحليب في العالم. فليس هناك فرق بين الأجناس والشعوب لأننا جميعا أبناء أبينا آدم، ولنا نفس القابليات الفكرية، ولكن الفرق يكمن في السلوك والممارسة، وطريقة التربية والتكوين، ومن ثم طريقة تسيير الشأن العام...
وللخبير الاقتصادي المحنك دارون أسموغلو كتاب قيم ألفه مع أستاذ العلوم السياسية في جامعة هافارد، جيمس روبنسون عن دار النشر الأمريكية (Kindle Edition) ، وسمياه لماذا تخفق الأمم؟ (Why Nations Fail ?)؛ وهو كتاب قيم حاول من خلاله الكاتبان بنجاح تفسير أسباب نجاح الأمم وإخفاقاتها معتمدين على أرقام وإعمال القياس؛ فلم يقتصروا على الإطناب والاكتفاء ببعض الأمثلة العابرة بل سبروا التاريخ القديم والمعاصر ونبهوا عين القريحة من سنة الغفلة في الفكر، فتوقفوا في الكتاب بأسره عن ظاهرة المؤسسات التي ترفع بها أحوال الأمم أو تذل؛ وأبديا في هذا العامل سر نجاح الأمم أو إخفاقها العابر والقادم وتوقفوا عند علل وأسباب المؤسسات، فهذبا مناحيها تهذيبا، وقربا لإفهام المختصين وبناة الدول تقريبا، وشرحا انطلاقا من المؤسسات وما يعرض المجتمعات من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل التقدم والتخلف وأسبابها، ويعرفك كيف دخلت أمصار إلى الحداثة التكنولوجية الدائمة، وأخرى إلى التطور الاقتصادي المؤقت، وأخرى كيف بقيت في الدرك الأسفل من التقدم؛ وكم أتمنى أن يقرأ هذا الكتاب القيم من أعطاهم القدر تحمل أمانة المسؤولية في دول مثل ليبيا والعراق بل وكل الدول التي تعثرت في مسيرتها وتبني اليوم حياة سياسية جديدة.
الفكرة الرئيسية التي أتى بها الخبيران تكمن في أن الدول المتقدمة ازدهر اقتصادها عندما أنشأت مؤسسات سياسية واقتصادية احتوائية، وأخرى خفقت عندما غفلت عنها وأنشأت مؤسسات اقتصادية إقصائية...
المؤسسات الإقصائية وإن أظهرت نجاحها الباهر اقتصاديا فإن ذلك ليس بسمة من سمات الدوام والثبات؛ ويبقى رهين الأمواج والتذبذبات؛ ثم هي في غالب الأحيان تبقي المجتمع في غيابات الخوف والترقب من السلطة المركزية القوية الإقصائية وهو شأن دول عديدة كليبيا القذافي وتونس بنعلي؛ إذ ازدهرت تلك المؤسسات الاقتصادية في المركز والمحيط إلى أن عم الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فانفجر الوضع الاجتماعي العام وأتى على رؤوس القوم محاولا تغيير تلكم المؤسسات الجارفة؛ ولكن بعد عقود من ترسيخ المؤسسات الإقصائية تولدت في أذهان الناس عقليات وسياسات تقصي ولا تحتوي، تبعد ولا تشجع، تراقب ولا تحرر، تعاقب ولا تجازي...أما المؤسسات الاقتصادية الاحتوائية فإنها ترسخ قيم العدالة، وتشجع الاستثمارات في الطاقات والصناعات المتجددة والتكنولوجيات الحديثة، وتفرخ المهارات وتبرزها إلى الوجود، مما يؤدي إلى نمو اقتصادي أكثر من المؤسسات الاقتصادية الإقصائية؛ وهنا أفكر في دولة ليبيا والتي إذا لم يكف جزء قليل من أبنائها الذين يفخر بهم العالم العربي والإسلامي عن دعوات الانفصال والاستقلال الذاتي، ستبنى إلى ما لا نهاية، مؤسسات اقتصادية إقصائية خطيرة زيادة على غياب سلطة مركزية سياسية واقتصادية قوية، وإرث تاريخي كارثي أقصى ولعقود الأحزاب السياسية والنقابات والمجتمع المدني الأهلي ومنع المجال السياسي العام من الوجود، وهنا الكارثة.