د. حمزة السالم
أشهى ما يشتهي العدو والمتربص تنازع من يعاديهم، فيما بينهم وتخالفهم. فإن لم يكن هناك نزاع، فتجد العدو لا يفتأ عن تحريك الألسن وتقول الأقوال وإشاعتها. فاختلاف الرأي لاستنهاض المشورة والصواب أمر مطلوب وحتمي، ولكن إذا انعقد الأمر فالرجل مع قومه، ولن يحسبه عدو قومه إلا معهم -شاء أم أبى- ولو أظهر مخالفتهم ومعارضتهم. ولهذا قالت العرب:
«وهل أَنا إلّا مِن غزيَّةَ إِنْ غَوَت
غَوَيتُ وَإنْ تَرشُد غَزيَّةُ أَرشد»
وبيعة بعض رؤوس الناس وغيرهم ممن حضر، تُلزم الأمة كلها. فلم يبايع أبا بكر إلاّ غالب من حضر السقيفة. وما ضر بيعة الصديق تخلُّف علي رضي الله عنه، ولا ممانعة سيد الأنصار سعد بن عبادة. فقد تمت البيعة بمبايعة أكثر من كان في السقيفة من المهاجرين والأنصار، فلزمت البيعة الأمة كلها، وثبتت الخلافة بعد رسول الله، ولزم الولاء والطاعة لولي أمر المسلمين.
وقد اختلف الصحابة فيما بينهم بعد وفاة رسول الله على الخلافة، فاجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة لتبايع سعد بن عبادة، فأراد الله أمره فكانت الخلافة للصديق، وكان هو أحق بها وأهلها. فالخلاف قبل البيعة، قد يُغفر عنه. ولكن منازعة الأمر أهله بفعل أو قول محرض، بعد البيعة هو جريمة في الإسلام، وهي كذلك خيانة، في أعراف الأمم المتحضرة.
ولم تقم للعرب - قبل الإسلام - ولاية عامة، فلم تقم لهم حضارة. فالعرب أمةٌ غير مُنضبطة فِطرة، كما إن أهل المشرق من الوجوه الصفر أُمة منضبطة فطرة، فسبحان خالق الشعوب. فالعرب لا تحب الالتزام. وقد كانت قريش تنسأ الشهور ليستحلوا الشهر الحرام، فيغيروا على القبائل الآمنة، فتقتل رجالهم وتنهب نساءهم . ولعل هذا بعض ما دفع برسولنا عليه الصلاة والسلام بعقد صلح الحديبية، فهو يعرف أن قريشا ومن معها من قبائل العرب لن يصبروا على الوفاء. وقد نقضت العرب وارتدت بمجرد موت الرسول عليه الصلاة والسلام.
بُويع أبو بكر فرفضت بعض العرب البيعة، فقاتل الصديق العرب على منع عقال بعير، كما قاتل أمير المؤمنين علي، حواري الرسول طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة لمجرد الخروج بلا استئذان.
وانتُخب ابراهام لينكون رئيساً للاتحاد الأمريكي آنذاك، فعصت الولايات الجنوبية أمره، فأقام عليها حرباً فأخضعها بالنار. فشتان بين العاقبتين، فالإمبراطورية الأمريكية كانت عاقبة السمع والطاعة، وقتل ما يقارب السبعة ملايين -بتعداد اليوم- كان عاقبة العصيان والاستخفاف بالسلطة. فضلاً عما انتُهك في الحرب الأهلية من أموال وأعراض. فلا يتوهم مُتوهم أن المدنية الحديثة والحضارة الإنسانية، تتنافى مع وجوب الطاعة للقيادة العليا التي أكد عليها الإسلام.
فالحمد الله على استقرار الملك وثبات الحكم. ولا يقدر فضله ويشكر نعمته إلا من ذاق بأس زواله وزعزعته. ولنسأل من حولنا من دول المظاهرات والاضطرابات ولننشد أهل سوريا والصومال وأفغانستان، بل فلنقرأ التاريخ قديمه وحديثه، فإنّ فيه موعظة وعبرة لكل صاحب مذهب ورأي.
ففي عدم استقرار الحكم فظائع ومواجع, لم يخلو منها حتى تاريخ أصحاب رسول الله من صفوة أهل بدر ومن العشرة المبشرين بالجنة وفي الخلافة الراشدة. وما بعد ذلك أعظم وأشد عند المسلمين وعند غيرهم، كما هي كذلك عند الغرب والشرق. وإنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.