د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يصل سعر الغرام من الميلانين الخالص 384.5 دولار، بينما يبلغ سعر غرام الذهب بين 40 و45 دولارا، فالميلامين أغلى من الذهب. والميلامين مادة عضوية واسعة الانتشار في الطبيعة، وهي المسئولة عن تحول ألوان بشرتنا، أو شعرنا. وهي المادة التي تضفي الجمال على الطبيعة فتلون ريش الطيور وأجنحة الفراش وأوراق الشجر. ولذلك يدخل الميلانين في معظم الدهانات، والصبغات التجميلية التي تعتمد عليها الصناعات التجميلية الضخمة. الميلانين الصناعي مكلف للغاية بسبب صعوبة تركيبه مختبريا، والميلانين المستخلص من حيوانات بحرية، كالحبار أو بعض القواقع البحرية يتطلب صيدها، أو استزراعها وتحفيزها ثم استخلاص الميلامين من إفرازاتها. وهذا ما يفسر سعره المرتفع جداً.
وأهمية الميلانين لا تتوقف عند ما ذكر أعلاه، فهو المسئول عن حماية الأعين والجلد من الأشعة فوق البنفسجية. ويزيد الميلامين المناعة، ويخفف الحموضة ويمنع تليف الكبد. وهو أيضاً عامل مهم لتشكل الأجنة، وقد وجد ترابط بين نقص الميلانين وإصابة المواليد بالعمى أو ضعف الإبصار. ويدخل الميلانين في تركيبة الدماغ، والموصلات الكهربائية العصبية بينه وبين أعضاء الجسم الأخرى. والميلانين مضاد ممتاز للأكسدة لوجود عدد كبير من الجزيئات الحرة في ذراته التي تتفاعل بسهولة مع الجزيئات الحرة التي تجوب جسم الإنسان وتسبب الأكسدة والشيخوخة. وإذا أضيف الميلامين للبلاستيك فهو يقي من الأشعة فوق البنفسجية ويطيل عمر البلاستيك بسنوات كثيرة. هذا غيض من فيض فاستخدامات ووظائف هذه المادة العضوية المهمة لا تعرف الحدود. ولذا فلا غرو أن يكون أغلى من الذهب.
القصة لا تقف هنا، بل لها جوانب مدهشة تتعلق بالأبحاث التي أجريت لعقود في المملكة وعلى وجه الخصوص في جامعة الملك سعود واستطاعت استخلاص الميلانين بعد عمليات كيميائية معقدة بخمسة دولارات للغرام فقط، نعم خمسة دولارات. والعجيب أنه تم استخلاصه من مادة طبيعية رخيصة هي قشرة الحبة السوداء بعد عقود من البحث المتواصل لمختبر الأستاذ الدكتور د. عادل محجوب حسيب. والدكتور حسيب من الجنسية السودانية وله ولطلابه مختبر متقدم التقنية في الجامعة. وعندما التقيت به وبعض زملائه كانت بين يديه كمية من الميلانين الخالص، وكذلك صفائح بلاستيك، وعدسات نظارات تم إدخال الميلانين عليها وثبتت مقاومتها للأشعة فوق البنفسجية.
وبناءً على بحث للدكتور حسيب نشرته مجلة الفيصل، نوفمبر 2006، فكثير من علماء النبات والأعشاب الطبيعية في العالم يدركون الأهمية الغذائية الكبيرة للحبة السوداء، ولكن أحداً منهم لم يربطها بالميلانين. فنسبة الميلانين في قشرة الحبة السوداء تزيد عن 15 %، ونسبة القشرة للحبة السوداء هي أيضاً 15 %، وبذلك تكون نسبة الميلانين في الحبة السوداء 2.5 %. ورغم الأبحاث الكثيرة على الميلانين إلا أن خواصه الكيميائية لم تعرف كاملة بعد. وسبق وكتبت أن جامعة الملك سعود أنشأت حديثاً واحداً من أحدث معامل الليزر في العالم، معمل «الأوتو ثانية»، جُهّز بالتعاون مع معهد ماكس بلانكس الألماني وجامعة لودفيق ماكسيميلان، وهناك جهود حثيثة للغوص في الجزيئات الدقيقة لهذه المادة الثمينة باستخدام أجهزة الرصد الليزرية الفائقة السرعة.
ولكن هناك وللأسف أمران محزنان حقاً بهذا الصدد: الأول أنه لم تتقدم أي شركات محلية بمحاولة الاستفادة من ميزة المنتج السعودي المبتكر أو دعم البحث فيه فيما عدا الشركة التي كانت تعمل في استخلاص زيت الحبة السوداء، حيث كانت تزود مختبر الجامعة بالقشور المتبقية. هذه الشركة أنتجت مضادا للحموضة من مادة الميلانين السعودي. الأمر الآخر الأكثر مأسوية هو أن الأستاذ عادل حسيب قارب السبعين وهو في أوج عطائه العلمي، ولا يوجد في أنظمة الجامعة ما يسمح للتمديد له بعد هذا العمر. وللعلم فما زالت أنظمة التعليم العالي لدينا تنظر للعالم والباحث الجامعي كموظف وتقاعده بحسابات عمرية. حتى الأستاذة الذين يتم التمديد لهم بنظام التعاقد تنزع من عقودهم جميع البدلات بما فيها تلك التي تمنح عادة للمتعاقدين، وهذا يشكل هدراً معرفياً لا يقدر بثمن. فلا يمكن للعلم أن يتقدم في بلادنا إذا ما كنا نقاعد علماءنا وأساتذة جامعاتنا في أوج عطائهم. علماً بأنه في معظم جامعات العالم، الأستاذ الجامعي هو من يشعر الجامعة بعدم رغبه في التمديد. فلا بد من إيجاد آليات لدعم الأبحاث في جامعاتنا بشكل فعال وعلى وجه الخصوص في الجامعات الكبرى، ولا بد من وجود استثناءات نظامية تحددها الجامعة للحفاظ على الكوادر العلمية من أمثال الأستاذ عادل محجوب حسيب.