أ.د.عثمان بن صالح العامر
كان هذا الشهر الفضيل ميدان تسابق إلى الله، ومنافسة حقيقية في سوق الآخرة، ذهب فيه أهل الدثور بالأجور، تفريج كربة، وكفالة يتيم، وإفطار صائم، وعلاج مريض، وصدقة على فقير أو مسكين، ومع أن البعض منا - بل ربما جلّنا- ألِف هذه المشاهد التراحميّة التي عمّت مجتمعنا، وشارك في أداء الأدوار المختلفة فيها شريحة عريضة من أبناء هذا الوطن المبارك المعطاء، فإنه حين يمعن النظر فيها ويعقد المقارنات مع كثير من المجتمعات المعاصرة المتقدمة منها والمتخلفة، ويسبر أغوار الواقع المعيش يدرك أننا - بحمد الله ومنِّه- مجتمع خيِّر فاضل، حريص على تلمّس مواطن الخير، ومسابق في طرق أبواب دفع البلاء، والشكر على النعماء، ومن لم يستطِع منا خيلاً ولا ركابا، وليس لديه ما يعطيه في هذا الشهر الكريم فقد كان باذلاً جهده من خلال وسائل التواصل الاجتماعي في الدلالة على الخير والتسويق لمشاريعه، وفي ذات الوقت داعياً الرب عزَّ وجلَّ لصانعيه بأن تكون تجارتهم من الله رابحة.
إن من السمات الحسنة التي يجب أن نفخر بها ونحرص على ضمان استمرارها التكافل والتكاتف بيننا بصورة لا يعرف عمق دلالتها معرفة حقيقية إلا طرفا المعادلة (الفقير وذو العوز الذي حصّل من الخيِّرين ما يفي بحاجاته ويسد متطلباته الحياتية) من جهة، ومن جهة ثانية (المنفق الذي ذاق لذة العطاء، وعرف أن قرضه مع الله سيضاعف له أضعافاً كثيرة، وسيجني ثمار ما بذل في الدنيا قبل الآخرة)، وما أروع ما قال لي أحد الأثرياء حين قدّم ما جادت به نفسه في سبيل من سبل الخير: «تعلم أن أول المستفيدين من المال الذي أُنفقه أنا، قبل أن يصل للمحتاج الذي ينتظره بفارغ الصبر، إذ إنني في الحقيقة أقرض الله قرضاً حسناً، ولذا أجد سعادة لا يعلم مداها إلا الله، وإلا فإن المال ليس رخيصاً عند بني آدم فهو محبب للنفس، خاصة لدى الأغنياء».
لقد قدّم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد - حفظه الله ورعاه ووفقه لكل خير- في هذا الشهر العظيم أنموذجاً رائعاً في العطاء والبذل من خلال حملة (تفريج كربة) التي جابت مناطق المملكة المختلفة، كما شارك في التبرع بسخاء أمراء المناطق ونوابهم وأعيانها وشبابها ونساؤها وصغارها، جعل الله ما قدَّم سمو ولي العهد وأصحاب السمو الملكي الأمراء ورجال المال والأعمال والخاصة والعامة شباباً وشيباً، نساءً ورجالاً في موازين أعمالهم، ولا حرمهم الأجر والمثوبة، وكنت أمنّي نفسي بأن ينبري أحد الإعلاميين المتابعين لهذه الحملة الخيِّرة المباركة ليرصد مشاعر المسجونين الذين سُددت ديونهم وخرجوا إلى أهليهم فرحين بالاجتماع بهم والإفطار معهم، بعد أن ظنوا أن ذلك أمر مستحيل، ولكن وإن لم يكن هذا فإن مشاعر الفرح جزماً متحققة، والثمرة من البذل حاصلة إن شاء الله .
بقي أن أشير إلى أن كلامي هذا لا يعني أن مجتمعنا المتكاتف لم يبقَ فيه فقير أو ذو عوز وحاجة، إذ إن هناك من المتعففين من لم يصل لهم أحد حتى تاريخه، وهذا طبيعي في المجتمعات القديم منها والحديث، في المقابل هناك من المتسوِّلين والمتسوِّلات الذين يقفون على أبواب المساجد وفي الطرقات ويطرقون البيوت، ليسوا ممن هم بحاجة أو أن حاجتهم ليست ملحّة ويمكن التغلب عليها، ولكنها العادة والرغبة في طلب المزيد، وقد حذَّرت منهم الجهات الرسمية كثيراً فعلينا الالتزام، كما أن هناك من تجاهل ما أوجب الله عليه من زكاة مشروعة تسويفاً وإهمالا، وهناك... وهناك... ولكن كل هذا لا ينفي أننا بخير وعلى خير، قدوتنا في هذا السلوك الخيِّر الرائع ولاة أمرنا الذين يحرصون على أن تظل المملكة العربية السعودية مدرسة في الجود والبذل داخلياً وخارجياً من منطلق ديني وإنساني لا يخفى، والتاريخ شاهد، والوثائق والصور والتقارير و... خير دليل وبرهان. دمتم بسلام، وكل عام وأنتم بخير، وإلى لقاء والسلام.