د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
مرَّ عام كامل على المقالة الأولى «أتت بهم الذاكرة في يوم عيد» وقد كنتُ كتبتُ في نهايتها:( بقي رجال تستمطر الذاكرة مواقفهم لعل الله يمنّ بفسحة من الوقت؛ لأقيدها في عيد آخر بإذن الله), وهاهو العيد قد أتى فأسأل الله أن يقبل منا جميعاً صالح أعمالنا ويتجاوز عن التفريط.
وقد جملتْ تلك المقالة بأن كانت أولى الذكريات مع شيخنا الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله, ولا أنس موقفاً عجيباً كنتُ له من الشاهدين إذ كانت لسماحته رحمه الله محاضرة في جامع الملك خالد بالرياض فذهبتُ باكراً إليها لأكون قريباً من الشيخ, وفعلاً كنت من أقرب الناس إلى مكان إلقائه للمحاضرة, ودخل الشيخ المسجد من الجهة الغربية الشمالية وحوله من حوله من الناس, فلما وضع قدمه في المكان الذي خلف الإمام أحسَّ بوجود سجادة على سجاد الجامع, فقال: ما هذا؟! فقالوا: سجادة, فقال: سبحان الله المسجد ما فيه سجاد, ثم أمر برفعها؛ لئلا يتميز أحد عن أحد في المسجد فرُفعتْ, ثم بدأت المحاضرة بعد صلاة المغرب ثم تكاثرت الأسئلة على المقدِّم للمحاضرة وكان مما قرأه سؤال عن السحر وما يتعلق به, فتكلم الشيخ بما فتح الله عليه من التحذير منه ثم كيفية علاجه بالقرآن، وبدأ بقراءة بعض الآيات التي تتعلق بالسحر تعليماً للناس, فما راعنا إلا صارخ من آخر المسجد: (خلاص يا شيخ أبطلع أبطلع خلاص...) والشيخ مستمر على أمره لم تتحرك منه شعرة فيما أرى, والناس قاموا وماجوا وتلفتوا, وعيني على الشيخ أنظر ما يفعل فلم يزل كما هو, ثم قال للمقدم نعم- أي أعطنا السؤال الذي يليه-, انتهت المحاضرة ... ثم سألتُ عن خبر الصارخ؟ فأخبرني أحد الإخوة أن رجلا ً من دولة أفريقية كان به مسٌّ فيما يبدو, فلما جاءت آيات السحر نطق الذي فيه بالكلام الماضي, وأن بعض الإخوة أخرجوه من المسجد فما هي إلا مدة يسيرة حتى قال: ما الذي جرى لي؟ لم يكن مدركاً للموقف, فأُخبر الخبر, واللطيف في الموقف أن هذا الأخ دخل المسجد ليصلي العشاء بعد انتهاء المحاضرة, وكان الذي بجواره في الصف قد رأى حاله قبل ذلك فكان يرقب صلاته بعين وهذا الرجل بعين تحسباً لأي موقف, فلما كانوا في التشهد الأخير عطس الرجل الأفريقي فاضطرب الرجل الذي بجواره حتى كاد أن يقطع صلاته.
ولا شك أن المسَّ وهو تلبس الجني بالإنسي محل إجماع عند أهل السنة. قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:(دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة).
أتذكر أني كنت واقفاً عند باب الجامع الكبير بعنيزة إذ خرج منه الشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله بعد صلاة العصر, ووافاه عند عتبات الجامع صبي فأعطاه الشيخ ريالاً قد مرتْ الأيدي عليه كثيراً, فقال الصبي: أريد ريالاً جديداً, فما كان من الشيخ إلا أن بحث فيما بين يديه من مال فوجد ريالاً جديداً, فأعطاه إياه وقال له: هذا ريال جديد على طلبك!
بل مرة رأيت الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في المسجد الحرام يمشي فمشيت بجواره استمع لأسئلة الناس فإذا رجل عظيم البنية وقف أمام الشيخ وقرَّب شفته إلى فيِّ الشيخ يريد أن يقبله والشيخ يرجع رأسه إلى الخلف ابتعاداً من فعل هذا الرجل ولم يدفعه ولم يعنفه حتى أدرك الرجل نفور الشيخ من فعله فكفَّ, وأتى أحدهم وكان معه طيباً فطيَّب يد الشيخ ولم يلق الشيخ بالاً لذلك لكثرة الناس حوله فقال ذلك الرجل: يا عمِّ الشيخ هذا يجوز؟ أي استعمال هذا النوع من الطيب, فقال: الشيخ أين صاحب الطيب؟ أعطني إياه, فدفعه إليه فقام الشيخ وطيب لحيته ثم قال للرجل وهو يبتسم: وش رأيك الآن يجوز؟! فضحك الرجل من لطف الشيخ وحسن تعليمه.
وأذكر مرة دخل شاب على شيخنا العلامة عبدالله الغديان رحمه الله في مكتبه بدار الإفتاء فسأله الشيخ عن اسمه فقال فلان بن فلان فقال الشيخ وقد بدأ عليه التغير, ما اسم جدك؟ فقال: فلان, فقام الشيخ من مكتبه وذهب إلى مكان الشاب وضمه وبكى وصار يردد: أبوك صاحب لي وصديق خاص الله يرحمه, وكان الشاب قد توفي والده قديماً ولا يعلم عن هذه العلاقة الحميمية بين والده وبين الشيخ عبدالله رحمهما الله.
لما كنتُ في المرحلة الثانوية لبس أحد أصحابي الدبلة!! فتعجبتُ منه, وقلت له: إن كبار مشايخنا يمنعون منها فقال: لا, اسأل لي أنت أحد المشايخ! فاتصلتُ بالشيخ صالح بن غصون رحمه الله, وكنت أسمع عن ذكره الحسن إذ كان من خيرة القضاة الذين تولوا القضاء في سدير, فرد الشيخ على سلامي بتحية مثلها ثم سألته عن لبس الدبلة, فأخبرني أنها لا تجوز ... فأخبرت صاحبنا بكلام الشيخ.
وقد مكث الشيخ صالح بن غصون رحمه الله في قضاء سدير أربع سنين, وقد قال في لقاء معه في إذاعة القرآن لما جاء ذكر تعيينه في حوطة سدير للقضاء قال: (وأهل سدير جزاهم الله خيراً كانوا عوناً لي على الخير) رحم الله الشيخ صالح بن غصون, وقد نسيتُ هل أخذ صاحبي بكلام الشيخ أم لا؟
وممن أتت بهم الذاكرة هذا اليوم المبارك صاحب الفضيلة الشيخ الصابر عبدالرحمن بن عثمان بن جاسر رحمه الله «شيخ الدلم» زرته في مرض موته وكان على فراشه فجلس ورحب ودعا كأن لم يكن به مرض, وسألني عن شيخنا فهد بن جاسر الزكري وطلب أن أبلغ سلامه للشيخ, وقد فعلتُ, كان الشيخ عبدالرحمن صابراً محتسباً سألته عسى ما يؤلمكم المرض كثيراً, فكان جوابه: (ابن آدم محل للأقدار يصبر على مرِّها, ويستعين بربه عليها, والحمد لله ما رأينا من ربنا إلا خيراً), ولد الشيخ عام1354هـ وتخرج في كلية الشريعة عام 82-1383هـ تولى إدارة المعهد العلمي بالدلم أكثر من عشرين سنة, كان عضواً في التوعية الإسلامية بالحج, وخطيباً للجامع الكبير بالدلم, كان يعقد الدروس للطلاب في فنون مختلفة, اشتد به المرض, فأدخل المستشفى فكان بين ذكر ودعاء وحمد لله, يغمى عليه من شدة المرض, وربما ردد وهو في شدة المرض (وما بكم من نعمة فمن الله) توفي يوم الاثنين 1423/8/8هـ رحمه الله رحمة واسعة.
وكان الشيخ عبدالرحمن يقول الشعر, ومن شعره قوله:
حبُّ العذارى في الرجال سجيةٌ *** وسجيتي في الحب حب بلادي
وطنيَّتي طبع نشأتُ بحبِّها *** كرم الأصول وموطن الأجداد
لا تعجبوا مما أقول فإنني *** أهب البلاد محبتي وودادي...
وقال رحمه الله:
أقمتُ بأمريكا من الوقت برهة *** على هامش الآلام والهم والفكر
أكابد آلامي وأجمع ما أرى *** فأُدهش أحياناً وأعجب من أمري
أقارن أوضاعاً تدور بعالم *** بما كان محسوباً على أمة الخير
رأيت من الأخلاق والصدق والوفا *** وما كان مفروضاً على أمة الطهر
تمنيت أن الدين كان قوامها *** وأن عفاف النفس من واقع السَّير...
في أول لقاء لي مع الشيخ العلامة صالح الأطرم رحمه الله، سألني عن اسمي فقلت: محمد الفريح, فقال : نَعَم! كلفظ المُنْكِر!! وهو يقيناً قد سمع قولي! ففطنتُ لأمر, فأعدتُه عليه مرة ثانية قائلاً: محمد بن فهد الفريح, فقال: ونِعم إيه, مالك أب! من البر بالوالد أن تذكره إذا ذكرت اسمك, فشكرتُ للشيخ رحمه الله هذه الفائدة, وكسبتُ دعاءه لي جمعنا الله به في دار كرامته.
لا زلت أذكر شيخاً وقوراً قد خَضَبَ لحيته بالحناء يعظ الناس ويحدثهم بعد الصلوات وأحياناً بعد الجمع وهو الشيخ سليمان بن إبراهيم البريه رحمه الله وأخباره كثيرة, ومن لطيفها أنه دخل الدراسة الليلية التي بجوار منزله وفي بداية السنة سلمتْ إليه إدارةُ المدرسة الكتبَ، ولما جاء في الغد لم يُحْضِر معه إلا كتاباً واحداً هو القرآن, فلما قال له المدرس: يا أبا عبدالعزيز أين بقية الكتب التي تسلَّمتها البارحة لتتابع معنا فيها, فقال: لم أدخل إلا لأتعلم معكم القرآن, مع أنه كان يعرف قراءة القرآن, ولكنه أراد الاستزادة من تعلم القرآن رحمه الله.
ومما يذكر هنا من خبره أنه هو وجماعة من أهل العطار بسدير يجتمعون في ديوانية عبدالعزيز بن سليمان البريه قبل أربعين سنة ليستمعوا برنامج نور على الدرب وفتاوى العلماء فيه من المذياع يوضع في وسط المجلس, فينصتون له كأن على رؤوسهم الطير, وهذه عادة لهم بعد صلاة المغرب في كل يوم.
في إحدى زياراتي لمنطقة جازان قبل سنوات ذهبتُ لزيارة عالم من علمائها, وشيخ محدِّث من شيوخها, هو فضيلة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله أدخلنا منزله, وأضفى علينا مع كرم يده كرماً من ألفاظه, ولطفاً في محياه, وقال للحاضرين: وقد قدَّم القهوة لن أقول لكم «اقدعوا» كما عندكم في نجد! فإن «اقدعوا» عندنا اخرجوا, انصرفوا! ونحن لا نريدكم تنصرفون!
رأيتُ مجلس الشيخ مقصوداً من الكبير والصغير وطالب العلم والعامي رأيته يفتي الناس في مجلسه وأحياناً يأتي السائل بسؤال مكتوب فيملي الجواب وأحد طلبته يكتبه, ثم يدفعه للسائل, وقد حدثني الشيخ ناصر قحل حفظه الله وقد بلغ الثمانين من عمره أن الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله قال عن الشيخ أحمد النجمي: (الشيخ أحمد يتفجر علماً في الحديث), ولد الشيخ أحمد عام 1346هـ, اشتغل بالتدريس, والتأليف, والفتوى, والنصح والإرشاد, طبعت دار الإفتاء بعض كتبه, مرة زرته حين أجرى عملية لعينه فإذا بالشيخ عبدالله بن عقيل رحمه الله يأتي للسلام على الشيخ, توفي الشيخ أحمد بعد معاناة ودخوله في غيبوبة لمدة أشهر في شهر رجب عام 1429هـ رحمه الله, وغفر له.
أختم هذه الذكريات بذكرى عن مدير مدرستي الابتدائية بالعطار الشيخ الكريم إبراهيم بن عثمان القديري رحمه الله المشهور «بمطوع العطار» كان خطيباً لجامع العطار أكثر من خمسين سنة , لما ثقل الشيخ عثمان العمر عن إمامة جامع العطار ذهب للشيخ صالح بن غصون رحمه الله قاضي حوطة سدير يعتذر من الاستمرار في إمامة الجامع , فقال له الشيخ: من ترشِّح خلفاً عنك؟ فقال: ما خبرت أحداً إلا إبراهيم القديري, ولكنه غير حاضر؛ لكونه يعمل بالرياض, قال الشيخ ابن غصون: الأمر سهل نكتب إليه ويأتي, فجاء خطاب الشيخ يطلب من الشيخ إبراهيم القدوم إلى سدير, فقدم الشيخ إبراهيم فوجَّهه الشيخ ابن غصون أن يحل محل شيخه عثمان فتولى الإمامة والخطابة خلفاً لشيخه من عام 1369هـ حتى عام 1419هـ تقريباً, وتم تكليفه رسمياً من قِبل الشيخ صالح بن غصون رحمه الله في 1371/12/29هـ, كما كلَّفه بالقيام بمهمة تعليم الأولاد بالمسجد في 1372/3/22هـ, ثم لما افتتحت مدرسة العطار في 1373/2/27هـ عمل مدرساً فيها, ثم عُين مديراً لها واستمر في إدارتها عشرات السنين, كان كريماً, لطيفاً, حسن العشرة, بابه مفتوح, خلَّف الذكر الحسن, وكان من بِرِّ الشيخ إبراهيم بشيخه عثمان العمر رحمهما الله : أنه يضحي عنه كل سنة, وقد توفي الشيخ إبراهيم بن عثمان القديري الشمري رحمه الله سنة 1421هـ .
وهنا وقف القلم ولعل الله أن يمن علينا جميعاً بإدراك عيد الفطر في العام القادم ونحن في صحة وسلامة وأمن وعافية وسعة رزق, فيتحرك القلم مرة ثالثة ليذكر شيئاً من ذكريات رجال قدَّموا الخير والنفع لأمتهم بإذن الله.