د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** قبل أعوام أشار أحد كبار العلماء في حديث خاص مع بعض مريديه إلى فتوى تيسيرية تخص الجمع بين الصلوات لم يكن الأكثرون يعرفونها، وحين سُئل عن أسباب عدم إفتائهم بها قال: إننا لا نحبذ إدخال العامة في مثل هذه القضايا كي لا تلتبس الأمور عليهم.
** تغير الزمن، وما استتر أو شِيءَ سترُه بانَ وانتشر، وصارت المعرفةُ حقًا مشاعًا يصل إليه من ودَّ البحثَ ودلَّ دروبَه، وما حرُم الحوار حوله أصبح متاحًا ومباحًا، وخرج من الدوائر المغلقة من فتح كُوىً للشمس، ومن يعش قليلًا سيرى اختلافًا كبيرًا؛ فما عادت العباءةُ الضيقةُ تتسعُ للعقول الممتلئة.
** لم ينفتح المسار الفقهي وحده، وفيما كان رجل الشارع وامرأة المنزل مهمومَين بشؤونهما فقد دخلا - برغبتهما ودونها - إلى الساحة المائجة الهائجة، وربما فقدا لذة العزلة الموجبة، وصارت الهمومُ العربية والدولية مسرحًا يقف على خشبته الجميع؛ فيُؤلون النصوص ويقوِّمون الشخوص ويتدخلون في الصوت والإضاءة والديكور والإخراج.
** لا شك في تعاظم إيجابيات هذا التبدل الجوهري نحو حرية حركة المعلومة وحق محاكمتها والحكم عليها، مع تعاظم سلبيات حرْف المشهد عن حقيقته وإبعاد المسرحية عن غاياتها، وحدثنا يومًا أستاذنا الراحل عبدالرحمن البطحي - عليه رحمة الله - عن أحد العامة ممن رفض السفر إلى بلد عربي مجاور خشية أن يطبخوا له «شيوعيةً حمراء»، وقد تجاوزنا هذه المرحلة الموغلة في البراءة والفطرية لكننا لم نتجاوز التخليط والتخبيط في المصطلحات بجهلٍ أو تجاهلٍ أو تجهيل.
** في الستينيات الميلادية استُنفر الإعلام «الناصريُّ» ضد المملكة، وفيه «صوت العرب وأحمد سعيد» و»الأهرام ومحمد حسنين هيكل» وتجاهلهم الإعلام السعودي بتوجيه من الملك فيصل - كما يروي شيخنا جميل الحجيلان -؛ فلم يَضِرْهُ وكانت العاقبةُ لحكمته وتحكمه، واستمرَّ استهدافنا فما غابت أهدافُنا.
** ويستدعي صاحبكم برنامج (مع الأحداث) الذي قدمته الإذاعة السعودية خلال فترة احتلال الكويت عام 1990 م فاستضافت أهمَّ الأسماء العربية المؤثرة ليحكوا الحقيقة المجردة، ومن تجربته في البرنامج فقد تواصل مع كبار بحجم «يحيى حقي» وآخرين يدنون من قامته فمثَّل حضورهم إضافة كما أيقظت رؤاهم منامًا سدر فيه من آثر الابتهاجَ بما وهم أنه نهاية الخليج الآمن، وتضافرت برامج وكتابات وتحليلات وحوارات فامتدَّ الجهد الإعلامي بمعانقة وعيٍ عربيٍ غائبٍ أو مغيب؛ فالخطابُ خارجيٌ لا داخلي، هادئٌ غير منفعل، نخبويٌ لا شعبوي؛ فمن يكسب النخب يكسب الجماهير.
** وفي الضفة المقابلة شهدنا - إبَّان معركة الحداثة والصحوة - توغل العارف والهارف؛ فضِيمت مواقف وهُضمت توقفات وأسيءَ إلى أفكار وشخصيات، وامتد التصنيف والاصطفاف، والظن أننا لم نبرأ من تداعياتهما حتى اليوم، والوهن في هذه السجالات الفكرية سومُ القادر والعاثر.
** العامةُ أمواج.