أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: منطقُ (أرسطو) في عمومه: نظريةُ معرفةٍ، وتنظيمُ تعبيرٍ عن الْمَعرفة، وتنظيمُ نوعٍ من الاحتجاج؛ فهو نظرية معرفة في الكلام عما تؤلَّفُ منه مقدماتُ البرهان من اليقينيات والظنيات.. إلخ؛ ويتضَمَّنُ أيضاً الكلامَ عن الغلط والشغب كيف يقع؛ فهو تنظيمُ تعبيرٍ عن الْمَعرفة في الكلام عن الألفاظ والحدود والكليات الخمس والقضايا؛ وهو أيضاً تنظيمُ نوعٍ من الاحتجاج على الْمَغالِط؛ وهو إيضاحٌ للإلزامِ بتنظيمِ الحاصلِ من الْمَعرفة، وما ينتج عنه من نتيجة ضرورية؛ وذلك في مباحث القياس، وفي بيان الأقيسة الْمُنتِجةِ وغيرِ الْمُنتجة.
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ الْمَنطقيين نظروا إلى إطلاق التعبير في كلام (أرسطو) عن القياس، وإلى تصريحه بأنَّ القياسَ هو طريقُ البرهان اليقيني؛ وغفلوا عن سياق منهجه في تبكيت السوفسطائية؛ مما عُلِمَ منه يقيناً أنَّ (أرسطو) لم يجعل القياسَ لتأسيس الْمَعرفة، ولم يجعله الطريقَ الوحيد إليها، ولم يدَّعِ إنتاجَه معرفةً جديدة؛ وإنَّما أراد تبكيتَ السوفسطائي، وإلزامَه، وكشْفَ السفسطةِ في أقيسته، والحوارَ معه معرفياً إلى الوصول إلى مقدمتين مسلَّمتين، ثم إلزامُه بنتيجتها؛ وبسبب غفلتهم هذه جعلوا القياسَ هو السبيلَ الوحيد للمعرفة اليقينية.. وقياسُ (أرسطو) إذا ترك وغايته: لم يردْ عليه شيءٌ من مآخذ النقاد.. كما أنَّ الكليات في بعض المقدمات ليست ثابتة بالاستقراء وإنْ كان الاستقراء يشهد لها.. كما أنَّ ما كان منها استقرائياً فحكمُ صدقِ نتيجته في الواقع تابعٌ التحقيقَ في دليل الاستقراء؛ ولكنْ ليست كليَّاتُه من مسائل الاستقراء، وليس الاستقراءُ أساساً فيها.. ومن الكليات ما هو برهان في نفسِه؛ لأنه بدهية فطرية، ومنها ما هو مَشاهِدُ ذات صورة في الذهن ومفهومِ في اللغة؛ فالكلِّيَةُ مشروطةٌ بذينك في كل ما وُجِدَ أو يوجد مثلِ كليةِ: (كل نارٍ محرقة)؛ فهذه الكلية مشروطةٌ بما حدَّدته اللغة عن النار مما هو في الذهن من مقتضياتٍ مع تخلُّف موانع؛ فهذه الكليةُ مشروطةٌ بذلك المفهوم لكل نار وجدت أو ستوجد؛ ولهذا تأسست هذه الكلية بغير الاستقراء، وجاء الاستقراء شاهداً لها؛ لأنَّه وَفْقَ الْمَفهوم اللغوي والصورة في الذهن عن النار.
قال أبو عبدالرحمن: وقياسُ الشمول ليس قياسَ تمثيلٍ؛ لأنَّ رَدَّه إلى صورة التمثيل في صيغة العبارة: إخراجٌ لقياس الشمول من ضرورته الْمَعْرفية إلى ظنية التمثيل مع أنَّ قياس الشمول مُسْتَغْنٍ عن التمثيل.. والاحتجاجُ بقياس الشمول لم يكن مأخذُه المِثلية؛ إذن ردُّ قياس الشمول إلى قياس التمثيل إلزام بما لا يلزم.. وفي كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ردوده على المنطقيِّيِنْ مغالطاتٌ في معرضِ رَدِّه دعوى باطلةً بينما العدل أنْ لا نقبلَ الأغلوطة وإنْ كانت ضد دعوى لا نُصَحِّحها، وقد تعلمت من الإمام أبي محمد بن حزم رحمهما الله تعالى: أنَ الْمُسامحةَ في الحقائق لا تجوز، وأنَّ التكثُّر بالباطل لا ينبغي.. وهذه الْمُغالطة منها ما هو سهوٌ من الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأنَّه في إمامته أجلُّ من أنْ يتعمد الْمُغالطة.. تجدون أمثِلةَ ما ذكرته لكم في معرض احتجاجه على أنَّ دليلَ قياس الشمول: الاستقراءُ والتمثيلُ.. ومن أدلته رحمه الله تعالى ما تابع فيه المتكلمين فيما أَخْطَؤُا فيه من القول بأنَّ الكليات صوةٌ في الأذهان وحسب، وأنَّ الكليَّ هو ما إذا تصورته لم تمتنع الشرِكة فيه.
قال أبو عبدالرحمن: الحدُّ يفيد التصوُّر؛ لأن الإنسانَ قد يعرف من النحو اسم (المفعول به)، ويعرفُ حكمه الإعرابي، ولا يدري لِمَ سمي مفعولاً به كصغار السِّنِّ من الطلبة، فَتَحُدَّ له التعليل بقولك: (المفعولُ به ما وقع عليه فعلُ الفاعل)؛ وهو يعرف معنى الفعل، ويعرف بعض ما يفعله الفاعلون كالضرب؛ فحصل له من مجموع تصوراته تصوُّر معنى المفعول به إن شُتِمَ أو ضُرب أو حُبس أو قُتِل قريبٌ له.. فعلمِ المفعولَ به نحواً بأنه ما وقع عليه فِعْلُ فاعل؛ وهو يعرف بفطرة السببية أنَّ المفعولَ به لا يكون إلا بسبب فاعل، ويعرف بالتربية معنى المفعول به؛ ولكنه استفاد بالحدِّ النحوي تصوُّراَ يميِّز بينه وبين الْمَفعولات الأخرى كالمفعول فيه كقولك قعدت في الدار.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.