{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى0] ويقول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134].
الدية قبل الإسلام:
كان العرب قبل الإسلام مجتمعاً قبلياً لا تنظمه قوانين ولا تسوسه أنظمة إلا أنهم مع ذلك كانوا يحرمون طائفة من الأعمال ويعاقبون عليها وفقاً لأعراف تعارفوا عليها وتحاكموا إليها وكانت هذه الأعمال المحرمة - التي نطلق عليها حالياً بلغة القانون جرائم - تختلف عقوباتها من قبيلة لأخرى لأن العرف الذي كان يسوسهم وينقادون إليه متبايناً ومختلفاً حتى أنهم كانوا يتحاكمون إلى أعراف لا تعد ولا تحصى، وكانت الجريمة إذا وقعت من أحد الأفراد تتحمل القبيلة بأسرها تبعاتها ومسئوليتها وكثيراً ما كانت الجرائم الفردية باعثاً لحروب طويلة كحرب داحس والغبراء التي وقعت بين قبيلتين من قبائل العرب وظلت مستعرة أوارها سنوات عديدة وكانت في أصلها بسبب جريمة فردية قليلة الأهمية.
الدية لغة
الدية في اللغة «مصدر من فعل (ودى) والدية حق القتيل والدية واحدة وجمعها ديات والهاء عوضاً عن الواو تقول وديت القتيل أديه ديةً إذا أعطيت ديته، واتديت أي أخذت ديته ومنه الحديث (إن أحبوا قادوا وإن أحبوا وأدوا) أي إن شاءوا اقتضوا وإن شاءوا أخذوا الدية.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى الصلح بمقابل وكان الدافع لذلك الرغبة في السلام والوئام والتآخي والتكاتف والتآزر بين القبائل وسمي هذا المقابل عند العرب دية إلا أن الدية لم تكن على نسق واحد وإنما تتحكم فيها أمور خارجية مثل مكانة الجاني والمجني عليه ومكانة القبيلة المعتدية والمعتدى عليها.
لا يكاد يمر أسبوع أو شهر دون أن تقرأ في الصحف المحلية استغاثة لإنقاذ رقبة قاتل من حد السيف بعد أن حول بعض أولياء دم القتلى المسألة إلى تجارة كبيرة تتجاوز حد المعقول.
إن ظاهرة المبالغة في طلب الديات مقابل العفو عن القصاص إلى جانب تجمعات القبائل وإقامة المخيمات من أجل طلب العفو تخدش الصور الإيجابية التي تعكس أصالة شعب المملكة العربية السعودية المسلم أمام الآخرين بأشياء بعيدة تماما عن الدين والتقاليد فضلا عن أنها إرهاق لكاهل أسرة المعفو عنه وأقاربه وقبيلته إلى حد يصل في بعض الأحيان إلى المستحيل.
فالعفو لم يكن يوما من الأيام من أجل دنيا أو مظاهر زائلة وإنما هي شيمة وقيمة لاتقدر بثمن فما عند الله خير وأبقى.
فظاهرة المبالغة في قيمة الصلح في قضايا القتل ظاهرة دخيلة لا تمت بأية صلة للدين الإسلامي الحنيف ولا المجتمع العربي السعودي الأصيل المتمسك بالشرع الحنيف, فيجب تكثيف الوعي الديني في نفوس الناس والتحذير من تلك الظاهرة المحرمة السيئة, وعلى أهمية إحياء فضيلة العفو وتذكير الناس بذلك وبالنصوص الحاثة عليه بكل وسيلة تحقق الانتشار والقبول.
وعلى ضرورة العمل في مراكز البحث والأقسام العلمية في الجامعات والتوعية بأضرارها من قبل العلماء وأئمة المساجد والدعاة وتوجيه علماء القبائل والإعلام والكتاب وأصحاب الرأي والثقافة إلى نشر وعي حل تلك المعضلة الجسيمة.
أحد أشهر المصلحين في قضايا الدم والقصاص قال من خلال القضايا التي سعى لحلها توصل إلى أن بعض الوسطاء هم من يتاجرون بالأعناق لمصالحهم الشخصية حتى قفزت المبالغ إلى خانة الملايين، حيث وصل عتق رقبة واحدة ما يتجاوز 35 مليون ريال.
إن الصحف المحلية باستمرارها في نشر تلك الاستغاثات لجمع الأموال بغية عتق رقاب بعض القتلة يمكن أن تسهم دون قصد منها في دعم ظاهرة التجارة بالأعناق، وذلك من خلال المغالاة في طلب الديات.. إذ يكفي تلك الصحف بنواياها الخيرة أن تدرك أنه تم دفع أكثر من 40 مليون ريال في عام واحد لإعتاق 8 رقاب من القصاص!! وما كانت هذه المغالاة لتحدث لولا إسهام الصحافة في نشر وترسيخ هذه الظاهرة من خلال استعطاف أهل الخير من الأثرياء والتجار للإسهام بصدقاتهم لعتق تلك الرقاب، فنأمل ونرجو من وسائل الإعلام المختلفة نشر ثقافة تحريم المتاجرة بالرقاب.
وإنا لمنتظرون، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.