حمّاد السالمي
«قليل عدد الرواد في البلاد. كثيرة هي عطاياهم ومزاياهم على أكثر من جيل في قرانا وحواضرنا وبوادينا ومدننا. رواد في عمل الخير وإصلاح ذات البين. رواد في التعليم يوم بدأ يتشكل من حلق التحفيظ في المساجد.. رواد في قولة الحق، وفي نشر الفضيلة بين الناس، ومنها كفّ الأذى عن القريب والبعيد.
«الشيخ الرائد الجليل: (عوّاض بن حمود العيسي السالمي)؛ كان واحدًا من هؤلاء الرواد الكبار، الذين عاشوا بيننا دعاة بُناة، ورحلوا في هدوء وصمت دون عجيج أو ضجيج. رحل الشيخ (عوّاض السالمي) عن دنيانا الفانية؛ إلى دار المقامة الدائمة، فجر يوم الثلاثاء الفارط، ودفن بمقبرة قرية النُّصْبة مسقط رأسه في بني سالم، وسط حزن وذهول ثلاثة أجيال تدين له بالفضل، في التعليم الذي نهض به في بني سالم منذ أكثر من تسعة عقود.
«يوم لم يكن في قرى بلاد بني سالم- التي هي من حواضر الطائف ولا تبعد عنها أكثر من عشرين كيلاً- لا طريق للسيارات، ولا مدرسة، ولا مستوصف، ولا كهرباء، ولا أي مظهر من مظاهر الحياة الحديثة.. يومذاك.. كان للعم والخال (عوّاض بن حمود السالمي) رحمه الله؛ مسجد صغير بجوار بيته الحجري في قرية النصبة. كان هو الوحيد في بني سالم قبل تسعين سنة؛ الذي يعرف القراءة والكتابة، فكان هو إمام المسجد، وخطيب الجمعة، وكان يصلي بكل بني سالم صلاة العيدين في المشهد: (مصلى العيد)، الذي يتوسط قرى بني سالم، ثم يتطوع ويلبي طلب كل من يريده في عقد نكاح، أو قراءة وكتابة مكتوب، أو فك طلاسم حجة وصك، ويكتب بين المتوافقين والمتصالحين، ويتنقل على دابته بين قرية وأخرى، لتقديم هذه الخدمات التي لم تكن شائعة بين سكان قرى كل همهم في الزراعة، فلا يوجد بينهم حتى عام 1391هـ؛ ولا موظف واحد في الدولة، أو حتى تاجر أو مهاجر من قراهم. كانوا كلهم أغنياء بالقناعة، وبما تنتج أرضهم من حبوب وفواكه وعسل وخيرات لا يصدقها أولادنا مهما وصفناها لهم.
«بدأ العم والخال (عوّاض بن حمود)- رحمه الله وأجزل له الثواب- مرحلته التنويرية في بلاد بني سالم؛ بأن فتح (كُتّابًا للتعليم) في المسجد الصغير هذا، وجاء بالشيخ المعلم اليمني (محمد المليكي)- أحسن الله خاتمته- كنت واحدًا من هؤلاء الدارسين بهذا الكُتاب؛ الذي عرفنا فيه القراءة والكتابة والحساب، ثم حفظ القرآن الكريم، وبذلك بدأ تكون جيل جديد يقرأ ويكتب، ولو على تباطؤ وتكاسل من الآباء؛ الذين يفضلون الاستعانة بأولادهم في الحقول الخضر؛ بدل ضياع الوقت في تعليم مساجدي يبدأ من شروق الشمس إلى غروبها.
«مع بداية الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي، فاجأ الراحل قبيلته في بلاد بني سالم كافة؛ بمدرسة حكومية نظامية، فخصص هو لها المبنى المتواضع بطرف قرية النصبة، وأخذ يأتي بمعلمين من الطائف كلهم إلا اثنين منهم؛ من السودانيين والأردنيين، ثم يجعل لهم السكن بجوار المدرسة، ويظل هو المشرف المتطوع بدون وظيفة إشراف؛ على المدرسة مكانًا وإنسانًا وزمانًا.
«لم يكن تأسيس المدرسة حدثًا عاديًا وقتذاك.. فهي تأتي بعد وصول السيارات الكبيرة المخصصة لنقل البضائع، عبر طريق شقه الأهالي، كما هو الحال في كثير من أودية وحواضر الطائف. دهشة المدرسة تسببت في انقسام القبيلة إلى فسطاطين متنازعين. فسطاط مع المدرسة في مكانها المختار، وآخر يريدها في جهته هو، والسبب يعود للجهل والمصالح الذاتية لا أكثر.
«كان والدي رحمه الله؛ مع الفسطاط المعارض، لأمر يطول شرحه، فتحولت أنا غصبًا عن المدرسة، إلى حلقة تحفيظ في قرية أخرى عند شيخ مغربي جيء به عمدًا في هذا الوقت، وهو لا يعرف سوى تحفيظ القرآن الكريم. مكثت وعدد آخر من أبناء المعارضين قرابة السنتين، لكني ضجرت وسئمت، خاصة وأنا أرى لداتي يدرسون في المدرسة، وتبدو عليهم علامات تحضر غير الذي نعرف. قررت ذات ليلة شتوية؛ أن أعصي أبي، وليكن ما يكون. في الصباح الباكر؛ أيقظني رحمه الله لأصحبه إلى المزرعة كعادتنا كل يوم. خرجنا من الدار؛ فتوجه هو للمزرعة، وأخذت أنا وجهتي الجديدة نحو طريق المدرسة. ناداني مرات فلم أجبه. خالطت بعض الزملاء في الطريق، وعرفت أنهم في الصف الرابع وهو الأعلى، وكانوا يشمتون بزميل لهم ليس أمامه إلا الصف الأول..! صممت أن أدخل معهم صفهم مهما كان؛ أو أعود أدراجي. دخلت عنوة، وجاء مدير المدرسة بباكورة طويلة ليخرجني من الرابع إلى الأول بالقوة، ونالني باكورة ساخنة؛ لكني رفضت بقوة. وفي اللحظة الحاسمة؛ تدخل المرحوم الشيخ عوّاض طالبًا من المدير إمهالي أسبوعين؛ لأثبت جدارتي أو أذهب للصف الأول. وافق المدير محمد الريس رحمه الله، وشعرت وقتها بحجم المسؤولية التي تلقيتها من الخال عوّاض. جاء اختبار آخر العام؛ وحصلت على المركز الثاني بين 15 تلميذًا.
«هذه واحدة من أفضال كثيرة لهذا الرجل الكبير، علي وعلى عشرات ومئات المتخرجين في مدرسة النصبة، وفي مدرسة قرية (أبو غيل) من بعد. مئات أو آلاف المتعلمين من بني سالم على مدى تسعة عقود، يدينون لهذا الرجل بالفضل، فهو رائد تنويري بحق، وهو منارة علمية ودينية وأخلاقية كانت تشع في هذه البقعة الجميلة، التي ظهر فيها، وعاش فيها، ودفن فيها. الرجل الذي تعددت مواهبه، وتنوعت فضائله، فهو إلى جانب مهامه في الإمامة وخدمة القبيلة علميًا؛ وعنايته بالتعليم من الكتاب إلى المدرسة؛ كان شيخ خامس العياسي من بني سالم، وكان صاحب علم ودراية بالفلك، وله تقويم سنوي مدري مشهور: (تقويم العيسي)، لا يستغني عنه المزارعون في كثير من حواضر الطائف.
«وقفت مع الجموع مودعًا ومعزيًا ومرددًا: رحماك ربي بهذا العلم الطاهر، والنجم الشاهر، الشيخ المعلم المربي: (عواض بن حمود السالمي):
ما كنتَ إلاَّ أمّةً ذهَبتْ
والعبقريَّةُ؛ أمَّةُ الأُمَمِ
أو شُعلةً أبصارَنا خلبتْ
ومنارةً نُصبَتْ على عَلَمِ