نجيب الخنيزي
أسفرت الانتخابات التشريعية التي شهدتها فرنسا مؤخراً عن فوز كاسح لحركة «إلى الأمام» التي تأسست في أبريل 2016 التي يتزعمها إيمانويل ماكرون، والذي فاز بدوره في انتخابات الرئاسة الفرنسية، في حين سجلت نتائج التصويت تدهوراً كبيرًا لمكانة كل من اليسار واليمين التقليدي على حد سواء، وهو ما ينطبق على بلدان غربية أخرى، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان طرح مسألة جديدة هي ما يعرف بالطريق الثالث، الذي يعبر عن رد فعل شعبي ساخط وانعدام الثقة في الطبقة السياسية الحاكمة، وفشل السياسات الاشتراكية والليبرالية المتوحشة في ظل العولمة، وما تولده من أزمات وفوارق وتناقضات عميقة في داخل كل المجتمعات من جهة، وبين الدول الغنية والدول الفقيرة من جهة أخرى.
الطريق الثالث هو صيغة توفيقية بين الرأسمالية والاشتراكية وتستند إلى فكرة «السوق المجتمعية» التي تعني القبول البراجماتي بمبدأ حرية السوق مع مراعاة متطلبات العدالة أي محاولة أنسنة الليبرالية المتوحشة خصوصاً في طبعتها الريجانية / التاتشرية المتطرفة وما ولدته العولمة من صراعات وتناقضات جديدة تمس هيبة وهيمنة النظام الرأسمالي على غرار المظاهرات والاحتجاجات التي جرت في سياتل وجنيف وهافانا وبانكوك وكندا وغيرها من البلدان والعواصم، حيث وضعت العولمة في قفص الاتهام.
ويدعو أنصار الطريق الثالث إلى تلازم مفهومي الحرية والعدالة وعدم تجاهل البعد الاجتماعي وضرورة قيام الدولة بمسؤولياتها. أما نقاد الطريق الثالث فإنهم يرون أن هذا التوجه هو محاولة يائسة لتدوير الأزمة البنيوية والعميقة التي تعصف بالرأسمالية وإذا كانت المعضلة الرئيسة التي عانت منها الاشتراكية وتطبيقاتها «السوفيتية» الفجة هي التركيز على مبدأ العدالة في حين تم تغييب الديمقراطية وتهميش المشاركة الشعبية ورفض مبدأ التعددية والتداول السلمي للسلطة، فإن الرأسمالية وإن سلمت بمبدأ الحرية والديمقراطية «وهي عملية لم تتحقق إلا بفضل النضالات السياسية والطبقية الطويلة التي استمرت عشرات السنين، غير أنها تجنبت مفهوم العدالة والبعد الاجتماعي ومسؤولية الدولة إزاء الفئات الفقيرة.
الديمقراطية الغربية قد فشلت في تحقيق مصالح الأغلبية من الناس، كما أخفقت في تقليص حدة الاستغلال والتفاوت الطبقي خصوصاً في ظل العولمة التي يتحكم فيها الرأسمال الاحتكاري والشركات المتعددة الجنسية وآلياتها المتمثلة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
فالطريق الثالث يبدو على نطاق متزايد كمشروع توفيق وتسوية بائس ويائس في عالم تزداد فيه كل يوم حدة الاستقطاب والفوارق على الصعيد الأفقي «بين الدول الغنية والدول الفقيرة» والعامودي «في داخل كل المجتمعات دون استثناء» وهو بالتالي ليس طريقًا وسطًا بين الاشتراكية والرأسمالية المتوحشة، بل هو تعبير أيديولوجي وسياسي يطرح في إطار الرأسمالية من أجل تكيفها وفقاً للمعطيات الجديدة والتحديات التي تواجهها لإعطائها بعض المصداقية والقبول من خلال محاولة أنسنة وتصحيح بعض جوانبها وممارساتها البشعة.