من الرائع أن تكون طموحاً، ومن أشد خصوصياتك أن تملك حُلماً، وتتطلّع إلى معالي الأمور، وتتبوأ أرفع المناصب القيادية؛ فتحوز من خلالها إمرة مرؤوسيك. تأمر؛ فتُطاع! تتحدّث؛ فينصت الجميع بانتباه! تتندّر ولو بأسخف النكات وأرداها؛ فيبتسم الحضور بل لعلهم يصطنعون صخباً وقهقهةً ملء أشداقهم؛ طمعاً في رضائك، ورغباً في عطاياك!
وإذا كان هذا الحُلم مشروعاً، والخصوصية حقاً؛ فمن غير الرائع أن تحوز ما ليس لك، وتسطو على منصب لست أهلاً له؛ كونك حزتَ ثقة رئيسك، ونِلتَ رضاه، أو أغضضت الطرف عن أخطائه أو ربما شاركته فساده الإداري دونما اكتراث لمصلحة المنظمة التي تعمل بها والتي من المُفترض أن تكون أميناً على مصالحها، وعامل بناء لا معول هدم لها.
ولكم أن تتخيّلوا حينما يرمق أحدهم، إبداعا لدى أحد مرؤوسيه؛ فيسارع بالضيق منه، وتنتفخ أوداجه غيظاً وألماً وكمداً، ساعياً بكل ما أوتي من حيل لإطفاء هذه الهمة المبدعة، وإطفاء هذه الجذوة الواعدة؛ والسر في ذلك الخشية على ذلك الكرسي، والخوف على منصبه؛ لذلك يرى في هذا الإبداع الواعد تحدياً له، وعدواناً عليه، وإزراءً له..!
ومن أسفٍ أن بعضاً أو شبيهاً من هذا يحدث في كثير من المؤسَّسات والدوائر والمنظمات الحكومية والأهلية، على تنوعها واختلافها؛ حيث ما زالت معاناتنا الإدارية مستمرة، في اختيار أهل الحظوة على حساب أهل الخبرة والكفاءة؛ لتستمر متوالية تعاقب القيادات الإدارية على المنظمة أياً كانت، والنتيجة يلمسها ويراها الجميع: (مكانك راوح) ولعل هذا ما دفع شاعرنا العربي بشَّار بن برد للتساؤل مستنكراً عن هذا الوضع القيادي الإداري المتردي:
متى يبلغ البنيانُ يوماً تمامه
إذا كنت تبني وغيرُك يهدمُ؟!
لذلك لن تقوم لأي بناء قيادي أو إداري، قيامة، ولن يبصر النور إنجاز له، أياً كان، طالما بقيت فئة من القيادات الإدارية المتنفذة، تعادي المبدعين، وتكره النجاح، وتتسلّط على المرؤوسين، بل توجّه طلقاتها الطائشة، صوب أي مشروع موهبة، قد يحقق الخير للمؤسّسة / الدائرة؛ ويصل بها وبوطننا إلى بر الأمان.
ولعل من آفات أزماتنا القيادية والإدارية؛ إجادة الكلام أكثر من العمل، والامتياز في النقد الهدام، الذي يحتقر كل إنجاز، ويقف حجر عثرة أمام كل نجاح، دون تشمير السواعد حين تدق ساعة العمل، الذي يُعد ضمانة التقدم والرخاء؛ كما تتمثّل معضلتنا القيادية والإدارية في عدم توافر القيادة الرشيدة، صاحبة الشخصية المحتوية والقرار الحاسم، وتعهّد ذوي الكفاءات وتشجيعهم، ومكافأتهم؛ تفتش عن مواطن الداء فتصلحه؛ وتأخذ على يد المخطئ، وتعالجه.
لذلك ما أحوج نظامنا الإداري إلى وضع أسس وضوابط وإعادة تأهيل دوري لبعض هذه القيادات الإدارية، ومحاسبة كلّ متجاوز منهم، يسمحُ بالمحسوبية، وتحويل مصلحته إلى محض ضيعة له، ويحرم فرص أصحاب المواهب والكفاءة، الذين لن يبقى أمامهم في الأخير، سوى طريقين: طريق الهروب؛ بحثاً عن بيئة مناسبة للنبوغ وتوظيف مهاراتهم فيها؛ وإما البقاء رغماً عنهم ليصابوا بالاكتئاب والتدمير البطيء، وربما يصبحوا وقوداً في حروب ومعارك صغيرة وتافهة؛ أملاً في ترقيات شكلية أو نفوذ ضائع..! بينما يُفتَح البابُ على مصراعيه للتابعين وأنصاف الموظفين..!
بيئاتنا الوظيفية تئن؛ وما زالت بحاجة إلى توفير الأجواء المناسبة، التي تتسم بالعدالة وتقدير روح المنافسة، والعمل وفق آليات جماعية منضبطة، تعظّم التفاني في العمل، وترسي منظومة قيم مثلى لا تمجِّد الشخص لذاته أو لمنصبه وإنما لعمله وإخلاصه وعطائه..!