د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
مررنا بطفرة في بناء المساكن في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي نتيجة لتوسع المنح والقروض العقارية التي كانت كفيلة ببناء مساكن مريحة للمواطنين آنذاك، وتبعتها تنظيمات وتعليمات للبناء فرضت متطلبات لم يتفهمها الناس حينها، ولا نتفهما اليوم، وربما كانت غير مفهومة لمن أقرها منها: شرط ألا تقل مساحة المبنى عن 400 متر، وأن تكون حول المبنى ارتدادات بمترين أي 10 % من مساحة الأرض تقريباً، وألا يكون البناء أكثر من دورين، وأن تكون الأرضيات رخام إلخ.. إلخ. ثم أتى دور البلديات واشترطت إنشاء رصيف بمتر أو مترين حول المبنى كشرط لتوصيل الخدمات. هذه الشروط على غرابتها لا تزال قائمة حتى اليوم بالرغم من تغير كافة الظروف العمرانية والسكانية والاقتصادية، وأننا اليوم نعيش أزمة سكانية.
فاشتراط مساحة المبنى مثلاً لم تراع نطاقات البناء في المدينة أو ما يسمى عادة «بالزوننق». وفي جميع مدن العالم تقل المساحة أو تزيد حسب اشتراطات التخطيط المدني العمراني، أو قرب المبنى من مواقع الازدحام والكثافة السكانية كوسط المدينة مثلاً. ولا زلنا نلحظ وجود وحدات سكانية منعزلة في أماكن مكتظة بالسكان كوسط المدينة مما يشكل ضغطًا كبيرًا على الخدمات في تلك المناطق.
وأما موضوع الارتدادات الذي يشكل هدراً كبيراً في مساحة أرض الناس أحوج ما يكونون لها هذه الأيام فليست له أية فوائد تذكر، وهو لا يطبق على العمائر السكنية التي يفترض أن يطبق عليها. ومعظم الناس يتحايلون للاستفادة من الارتدادات فور توصيل الخدمات بأساليب عشوائية وبشكل مشوه لم يدخل في التصميم الأساسي. ومن أبسط وأهم الأمور أيضاً تحول هذه المساحات المحيطة للمبنى لأماكن لتجمع الغبار المضر لصحة ساكنيه الذي يتطلب تنظيفه هدرًا كبيرًا ومستمرًا للماء، هذه مع أن الأسوار المشوهة التي تحيط بالمباني حولت مدننا إلى جواد وطرقات ذات أسوار ميتة قبيحة. وإذا أضفنا لذلك الأرصفة المتعرجة المكسرة التي ليست منها أية فائدة عدا تضييق وتشويه الشوارع فإننا نتساءل عن مصدر هذه الأنظمة. علماً بأن عمارتنا التقليدية كانت غاية في الانسجام مع محيطها، ومناخها، وطبيعة ساكنيها.
كان الناس يبنون على الصامت أي على واجهة الشارع مباشرة وبدون ارتدادات أو أرصفة ومساحة الارتدادات تستغل في فناء داخلي يساعد على تهوية وإضاءة المنزل طبيعًيا، ولذا لم يكن في المنازل مطابخ، أو مستودعات مرتجلة في الارتدادات. وإضافة لذلك فقد خلق ذلك لشوارعنا سمتًا منتظمًا ومنسجماً جميلاً، وطبعها بنسق معماري تقليدي فريد خاصٍ بنا. كما أبرز أهم عناصر المنازل الجمالية وهي المداخل وجعلها بجمالها وترحابها تطل على الشارع مباشرة. وشكلت ارتفاعات المباني المطلة على الشوارع مباشرة مجاري لتيارت الهواء، وأظلة يستظل الناس بها، ويركنون تحتها سياراتهم التي تأكلها في وقتنا الحالي الشموس الحارقة صيفاً، وتقصر من عمرها مما يكلف مليارات الريالات كقطع غيار. وللمعلومية فأمانات المدن تفرض على المواطنين إنشاء أرصفة وتمنعهم في الوقت ذاته من إنشاء مظلات على جداران منازلهم تظلل سياراتهم علماً بأن المساحة التي تشغلها المظلات تقف فيها السيارات على أيها حال!! وغريب حقًا أن الأرصفة التي لا فائدة منها عدا إعاقة السير والمشي لأنها غالبًا عشوائية وغير متسقة تفرض كشرط لإيصال الخدمات، والمظلات التي تحافظ على أملاك الناس تمنع.
لا أعرف من أوحى لنا بهذه الأنظمة، وآمل ألا يكون استشاريًا أجنبيًا لأن كثيرهم لا يعرف عن طبيعتنا وتراثنا العمراني الذي طورناه بسلاسة وفعالية ونمى معنا على مدى قرون طويلة. والأمر ذاته ينطبق على تصميم منازلنا ذاتها فمن المعروف أننا في البداية مررنا أيضًا بمراحل تصاميم غريبة مستوحاة من طرز معمارية مختلفة منها المعمار الإيطالي الذي يبرز شرفات خارجية تعتبر في إيطاليا وبعض الدول العربية أساسية يجلس فيها الناس مواسم اعتدال الطقس في الصيف، ولكن مناخنا وأعرافنا الاجتماعية والدينية تمنعنا من الجلوس في هكذا أماكن. وقد اغتر بشكلها كثير من المواطنين البسطاء بداية، وأجازتها أمانات المدن بكل أريحية ليعود ويطمسونها بأساليب ومواد موغلة في البشاعة. والأغرب أن هذه الأنظمة في مجملها مستمرة معنا اليوم وكأنما هي أنظمة ذات قدسية خاصة.
وزارة الإسكان، التي تجيل النظر يمنة ويسرة بحثاً عن إنجازات تحققها، يمكنها بدايةً أن تراجع هذه الأنظمة البالية التي أضرت بنا وتضع مواصفات جديدة للأحياء الجديدة تزيد من جمالها واقتصاديتها، مواصفات تبرز خصوصيتنا وتلائم مناخنا.