د. حسن بن فهد الهويمل
عايشت مشاهد الخطابات الفكرية، والسياسية ستة عقود ونيف، وجادلت، وحاورت واشتكيت، وأسمعت. حتى صرت [ابن بَجْدَتِها] و[ابن لِهْبِها] و[حَذَامِها]. ولم أعد خِبًّا يخدعني الخب.
وخرجت بمسلّمات كارثية صنعها الأخسرون أعمالًا، الذين يتحدثون في أمر العامة، وهم فارغون من المعرفة، والنباهة، وحسن التصرف.
ولمَّا يؤصلوا معارفهم، ويحرروا مسائلهم، ويتصوروا رؤية مخالفهم.
ومجالات الفكر، والسياسة، مِفْصليَّةٌ, مصيرية، لها ما بعدها. ومن خاض فيها، دون أن يُعِدَّ لها عدّتها، هلك َ، وأهلك.
وما أختلف الناس إلا من بعد ما فاجأتهم النوازل، وهم لاهون في توافه الأمور، كما [فقهاء بيزنطة] غافلون عما يدور من حولهم، متخففون من معارف عصرهم، وتراث أمتهم.
لا يتصورون الأشياء على حقيقتها. ولا يقرؤونها من مصادرها. ولا يردونها إلى أهل الذكر. فهم كمن:- {إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
ولا يقترف هذه الخطايا إلا الذين يبيتون ما لا يَقْتَضيه النص الصحيح، والعقل الصريح، فرهاناتهم تقوم على النصوص المفتريَات، ومطاياهم القلوب التي لا تفقه.
وأضر شيء على مشاهدنا كافة المتصدرون للشأن العام ممن تنقصهم أهلية التلقي السليم.
وعللهم المُصْمية: المذهبية المتعصبة. والحزبية المهيمنة. والتسليم للمرجفين. والقراءة غير البريئة. وسرعة الاستجابة لكل ناعق. وجاهزية الأحكام.
وإذا فاتحت أحدهم في شيء من ذلك، ظل وجهة مسوَدًّا، وهو كظيم، يكاد يتميز من الغَيْظ من سوء ما فاتحته به.
وأمام هذا الحشد من المشاعر، يتعمّد عُبَّاد الهَوى نسف جسور التواصل، ورفض لغة الحوار. فكأنهم القائلون:- {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}.
مشاهدنا يعكر صفوها هذا الصنف. ولما نزل بانتظار من يجدد للأمة أمر دينها، ويضع أقدامها على المحجة، ويثبت أفئدتها بالحجة، ويجادل المخالف على قدم المساواة، محتويًا، أو محيِّدًا. متفاديًا الصِّدام، والأثرة، واحتكار الحقيقة.
الكثيرون من الجدليين، ومثيرو التساؤلات، لم يصدروا من المتون، وإنما حاموا حول الهوامش. لا يقرؤون الأشياء، ولكنهم يقرؤون عنها.
وكم هو الفرق بين أن تستمع إلى خصمك، أو تقرأ ما خطَّت يمينه، وتفهمه كما يريد هو أن يُفْهِمَكَ رؤيته. أو أن يتحدث عنه خصومه، أو أنصاره، فكلا الطرفين يلوون أعناق النصوص، لتوافق أهواءهم: تشويهاً, أو تحسيناً .
وهكذا جدل المغرضين. كل خطّاء يتعمّد التكذيب لما لا يريد، وإن كان صِدْقًا، والتصديق لما يريد، وإن كان كَذِبًا.
وتلك قضية من أعقد القضايا التي أصابت مشاهدنا في مفاصلها، ولمَّا تزل على أشدها.
بل بلغت الزُّبَى في ربيعنا المشؤوم، والكشف عن صناديدها كشفٌ لأعظم مؤامرة، وأشدها خطرًا.
وحين أكون من [كتَّاب الرأي] فإنني أُلاقي كافة الآراء المتداولة، ولاسيما الحزبية، والطائفية، وأشياع هؤلاء، وأولئك.
والحزبيون، والطائفيون، وأشياعهم، والمتعاطفون معهم، والمغترون بهم، ليسوا سواء في الفهم، والاستجابة.
ومن ثم لا يسلم أي مقال من النقد، والتساؤل، والرد، والتكذيب، والتجهيل، والدخول في النوايا، والاتهام بالمقايضة، أو التزلف.
ولو أن أحداً من أولئك قرأ ما تحت السطور، ودعم موقفه بالنُّقول لَخَصَمَنِي. ولكن المتصدين لقولي , ورؤيتي، أو بعضهم، لم يقرؤوا، بل سمعوا من قرأ، ولم يفهم، أو قرأ قراءة غير بريئة .
وتلك التعديات المغرضة, تمس بلهبها الأكثرين من [كتَّاب الرأي]، فلست وحدي المتأذي .
ومع هذا الإيجاف بالألسنة، والأقلام, فإنني لست بالخائف على نفسي, خوفي على المشهد المرتبك، والمتلقي المُضَلَّل.
وكيف أخاف، والله يقول:- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} .
لابد من الامتحان المُمَحِّصِ. فما ألقاه، وما يلقاه غيري من زملاء الحرف امتحانٌ لمعرفة الصدق، والإيمان، والموقف, والثبات على المبدأ.
الذين يتاجرون بإمكانياتهم يضعون حسابات الربح، والخسارة في تقويم المواقف. أما المقتنع برأيه، المؤمن بقضيته، صاحب المبدأ، والموقف فإنه ثائرٌ لوجه الحق، لا يلتفت لما يقال، إلا بقدر ما يمكِّنه من تصحيح أخطائه العارضة له، والمتوقعة من كل عامل.
فالناقدون المنصفون مرايا، تُرِي المرء نفسه على حقيقتها. والعاقل العالم المجرب لا يأنف من النقد الموضوعي المنصف، المشتغل بالقضايا، دون الذوات. والباحث عن الحق، دون الانتصار.
وكم يُسْعِدُني تدارك أخطائي، وتلافيها، قبل أن أواجهها فردًا تاركًا وراء ظهري كل ما خولني الله به: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ}.
وهذا وعيدٌ للمتوسلين لأغراضهم الدنيئة بما خولهم الله من مال، أو علم، أو جاه، أو سلطة، أو قوة.
في بعض مقالاتي المواكبة لقرارات الدولة السيادية, أوجف عَلَيَّ البعضُ بخيله ورجله.
حتى لقد قيل ما قيل من [تغريدات] مسفة ، أو رسائل موجهة, من حزبيين، لا يدرون ما السياسة، وما الأحزاب. وكل منطلقاتهم من شائعات مغرضة، مخذِّلةٍ.
والبعض من المفاتحين , والمتسائلين التاث لسانه حين سألته:-
- هل قرأت ما كتبت؟
فقال: لا
فقلت: وهلا امتثلت أمر ربك بالتثبت من أنباء الفاسقين.
تلك هي بعض سمات مشاهدنا، بَحْثٌ عن المثالب، وتنكُّر, وإنكار وسعي وراء الانتصار، واستدبار للحق، والحقائق.
ما أوده من السمَّاعين :
- التثبت, والتحري.
- وعي الواقع.
- حسن التلقي, والظن.
- الإبقاء على الود, وجسور التواصل.
- تغليب العقل على العاطفة .
- الموضوعية, والنزاهة في النقد.