عندما يكتب المرء عن موضوع يهم كل إنسان مِنَّا في هذه الحياة فهو التسامح الذي بدا لي من النوع السهل الممتنع، فقد استقر بي المقام أن أكتب عن التسامح بشكل عام.
فعندما تُفقد فضائل التسامح في هذه الحياة بين البشر كافة، فإن معالمها يستحيل أن تظهر على السطح إلا إذا ارتقى أبناؤهم أخلاقياً وعلمياً وأدبياً.
فإن كلمة التسامح هي عبارة عن كلمة جميلة ناصعة البياض تحتوي بين طياتها وجنباتها على أمور راقية ذات أهداف وغايات، لا يستخدمها سوى قلَّة من النَّاس الذين يمتازون بالقلوب الكبيرة وممن أفاض الله عليهم بأبجديات الرحمة والصبر والروية والتأني والتريث على المكاره كافَّة واحتمال الأذى والقدرة على مواجهة العبارات السيئة بالحسنة، كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (سورة فصلت الآية 34-35).
التسامح ثمرة من ثمار العقيدة الإسلامية التي تقوم مبادئها على حب الخير للناس كافَّة على اختلاف أجناسهم ولغاتهم ودياناتهم. ومن صور التسامح أنه ساوى بين الرجل والمرأة وبين المسلم وغير المسلم وفتح أبواب الحوار على مصراعيه مع كل الأديان والمذاهب.
فإن التسامح المصحوب بالكلمة الطيبة الجاذبة يصعب الحديث عن تأثيرها ومدى نجاحها وعن دورها في تغيير مجرى أحداث الأشخاص ومن ثم مجرى الأوطان ومن خلال ما ذكر عن التسامح من أمور إيجابية، إذ لا يكفي أن نمتدح التسامح أو نكبر من شأنه وفي أعماقنا يسري التعصب في نفوسنا وفي سلوكنا تتجسد الضغائن، فإنَّ كتاب الله الكريم زاخر بالتعابير التي تدعو إلى الرفق والتسامح حتى مع الأعداء والجبابرة والطغاة كما هو الحال مع النصيحة الإلهية الموجهة إلى النبي موسى عليه الصلاة والسَّلام والنبي هارون عليه الصلاة والسَّلام - (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى} (سُورة طه الآية 44).
أي قولا لفرعون. والتوجيه الإلهي هنا لا يقطع خيوط الأمل في استمالة طاغية متعالٍ ومتغطرس ومتجبر كفرعون واستقصاء الطرق الممكنة لتحويله إلى إنسان سوي، فما بالكم بالآخرين من البشر الذين تسهل استمالتهم إلى الحق والطريق والقويم.
فقد أثبتت الأقوال أن كلمة التسامح موجودة مع الإنسان منذ الخليقة، فهي موجودة في كل مكان وفي كل بقعة تاريخية وجغرافية وجسدية، وأنها تُعَدُّ الرمز التاريخي للإنسان وعظماء الرجال سواء كانوا شخوصاً أو أفكاراً، فما أحوج الأمة الآن إلى استذكارها دوماً، فقد قال الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن التسامح هذه المقولة الجميلة:
«إذا سمعت الكلمة تؤذيك، فطأطئ لها حتى تتخطاك».
وقال أحد الحكماء «لذة التسامح أطيب من لذة التشفي، فالأولى يلحقها حمد العاقبة والثانية يلحقها الندم»!!
وقال غاندي «إذا قابلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة»؟!!
فإنَّ تأسيس الرؤية العقلانية عن كلمة التسامح مهمة جداً يتوقف تحقيقها على شكل التعايش العقلاني للقيم، فهي تصبح الصيغة العلميَّة الضرورية للتسامح نفسه، فالتأسيس ليس فعلاً إرادياً محضاً بقدر ما أنه يتراكم في مجرى أسس القيم بوصفها منظومة. وبعبارة أخرى إن لكل أمة ثقافة عن أسس التسامح، فإن قيمة التسامح تنبع وتتراكم في مجرى تجارب الأمة، فعادة تتراكم في صراع حاد وعنف أحياناًً لكي ترتقي إلى إدراك قيمة الخلاف والاختلاف بوصفهما أسلوباً ومنهجاً للعلم والعمل، وعندما يتحول الخلاف والاختلاف إلى حق وحرية يصبح التسامح أسلوباً ذا قيمة عالية، وبهذا تكمن قيمته الفعلية بالنسبة لرقي الإنساني في مختلف نواحي الحياة المادية والروحية.
وقال براتراند راسل «الحياة أقصر من أن نقضيها في تسجيل الأخطاء التي يرتكبها غيرنا في حقنا. أو في تغذية روح العداء بين النَّاس».
فإن تاريخ الوجود الإنساني على وجه هذه الأرض أصبح رويداً رويداً يتدرج نحو التعصب، وبدأت أفعاله تتسم بالتطرف ورفض أفعال الآخر حتى لو كان أخاً أو جاراً أو زميلاً فضلاً عن ذلك الآخر البعيد، فما أروع أن نتواصل مع كتاب الله الكريم ونداوم على تلاوة آيات التسامح وأن نطيل التأمل والتفكر في معانيها وأهدافها وأن نجعلها تترسب في أعماق الوجدان حتى نُبعدها عن التصرفات المنافية للإنسانية بقدر الإمكان.
ولنا في نبي هذه الأمة المحمدية صلوات الله وسلامه عليه قدوة حسنة:
عندما فتح النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه مكة المكرمة وقف عند باب الكعبة مخاطباً أهل قريش «يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، النَّاس من آدم وآدم خلق من تراب، يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم».
ومن نافلة القول إن غياب التسامح السياسي بين الدول هو أخطر ما يعاني منه العالم بأكمله، وذلك لعلاقة السياسة بالسلطة الحاكمة، وفي وطننا العربي الكبير على وجه الخصوص يعاني من الكوارث والحروب والمذابح لا مثيل لها، ومن هنا تبدو المحظورات السياسية أكثر بما لا يقاس من المحظورات الدينية والتسامح معها يكاد يكون مستحيلاً وهو ما جعل الوطن العربي دائم المعاناة يخرج من نفق مظلم إلى نفق آخر وهكذا، فقد سلمت المجتمعات الأوربية الغربية حينما رفعت راية التسامح السياسي فيما بينها وذلك بسبب الآداب السياسية التي ساعدت على قبول الاختلاف في الرأي وجعلوه حقاً طبيعياً لكل المواطنين، وعلى هذا الإجراء أو التصرف خفف من النزاعات العنيفة وحدة التعصب ودوافعه القهرية مما أوجد حالة من العقلانية في مسألة تبادل السلطة.
فإن غياب التسامح عامل مهم في تدهور الشعوب فيما بينها، فإن التطور والتقدم يتوقف على التسامح وعلى العلاقات الجيِّدة بين أبناء الأمة الواحدة وعلى ذلك يتحقق الانسجام والإصلاح المطلوب سياسياً واجتماعياً. فالشعب المشتت بين النخب السياسية والفكرية غارق في الصراعات الجانبية والقانونية، وعلى ذلك لا يمكن أن يتفرغ للمهام الأساسية المتعقلة ببناء الشعوب على المستوى المنشود الذي يرفع من وتيرة التطور في النظام السياسي والاجتماعي، حيث إن التسامح باب للشفاء من أمراض الذات المفرطة في العلو والتعالي، مما يجعلهم يتمتعون بقدر من الصفاء النفسي والوعي الجماعي ويجعلهم أكثر تسامحاً ورغبة في نسيان الخلافات والقبول بالتعاون مع الآخرين، وحينئذ يمكن لفكرة التسامح المتراكمة تاريخياً في الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة أن تصبح قيمة عملية فعَّالة تجاه النفس مع تعميقها وتحقيقها.