«الجزيرة» - المحليات:
تتوالى حاليا الاستعدادات لإقامة الدورة 11 من سوق عكاظ التي ستفتتح في مقر السوق بالطائف في 18 شوال القادم برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله.
وبات سوق عكاظ الحدث السياحي الثقافي الأبرز الذي تجاوز صيته المملكة إلى الوطن العربي، وأصبحت فعالياته الثقافية والتراثية والسياحية محل الاهتمام والمتابعة، كما أن عدد زواره من داخل المملكة وخارجها أصبح في ارتفاع سنوي.
وتعد هذه الدورة من السوق الدورة الأولى بعد صدور أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (حفظه الله) بتولي الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني مسؤولية الإشراف على سوق عكاظ بالتنسيق الكامل مع إمارة منطقة مكة المكرمة والأجهزة التنفيذية في محافظة الطائف قبل أشهر.
وتعتبر سوق عكاظ فصلاً مهمًا من تاريخ العرب قبل الإسلام فقد كانت تُمثل تجمعاً اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وقد تطورت فيه لغتهم، وشعرهم، وأدبهم، وذابت فوارق لهجاتهم، وعاداتهم، وتوحدت لغتهم نحو اللغة العربية الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم.
وكانت بداية سوق عكاظ في عام 501 م أي قبل ظهور الإسلام بقرن، وبعد انتشار الإسلام ضعف نشاط السوق حيث استعاض الناس عنها بأسواق مكة الدائمة، وتوقفت السوق في العصر الأموي.
بدايات اهتمام الدولة السعودية بإحياء السوق
وقد تناول بحث جديد لفريق علمي بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني برئاسة الدكتور سعد بن عبدالعزيز الراشد مستشار رئيس الهيئة للتراث مراحل اهتمام الدولة السعودية بإحياء سوق عكاظ، بعد أن توقفت أنشطتها، واندرست آثارها، وظلت أخبارها في بطون كتب الأدب والتاريخ، تتناقلها الأجيال على مر العصور.
حيث أشار البحث إلى أن موضوع إعادة المجد الثقافي لسوق عكاظ كان محل اهتمام الدولة بأعلى مستوياتها، وكانت بداية الاهتمام بإحياء السوق في عهد الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله الذي كانت لديه رغبة في إحياء سوق عكاظ، وتجديده، وقد وردت هذه الرغبة في خطاب جلالته إلى مؤسس جريدة عكاظ الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار بمناسبة صدور عددها الأول وجاء فيه: «نحن نرحب دائماً بظهور كل صحيفة جديدة يرجى من ورائها الهداية، والإرشاد، والحث على الخير بما يصلح البلاد، وينفع العباد في الدين والدنيا، ولذلك هو ما نؤمله من صحيفة (عكاظ) التي يسرنا أن نحييها، ونحيي الصحافة معها؛ بمناسبة صدور عددها الأول، وإننا لنأمل منها أن تحافظ على ذلك الاسم التاريخي المجيد، وأن تعمل على إحيائه، وتجديده».
توجيه الملك فيصل للباحثين بتحديد موقع السوق
كما أبدى الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله حين كان أميراً على الحجاز اهتماماً بالبحث في تاريخ سوق عكاظ، وتحديد موقعها، وعمل عدد من الباحثين في ذلك العصر، وهم كل من: محمد بن بليهد، وعبد الوهاب عزام، وحمد الجاسر رحمهم الله، على تحديد موقع السوق شرق الطائف، وتوجت جهودهم بزيارة الملك فيصل لموقع السوق والوقوف على آثاره، وقد ذكر ذلك ابن بليهد في كتابه (صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار)، فقد قام بجهد كبير؛ لتحقيق موقع سوق عكاظ، حيث قال عن جهده في تحقيق موقع السوق: «وإني قد بدأت البحث عن سوق عكاظ، وتحقيق موضعه من سنة 1355هـ، وانتهيت منه في شهر شوال سنة 1369هـ».
وعن اهتمام الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله بتاريخ سوق عكاظ، وتحديد موقعه، والوقوف عليه، قال ابن بليهد: «لما ثبت عند صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود صحة ما ذكرته عن عكاظ، وتحديد موقعه، ورأى الحرة التي تطلع عليها الشمس، والعبيلات البيض، والأرض المستوية التي تسع العرب عند اجتماعهم، ووادي شرب، ووادي قران، والعبلاء، وحلات جلدان، وثبت لديه هذا التحديد الواضح بحث مع الكاتب الأديب البحاثة عن بلاد العرب، وما بها من الآثار عبدالوهاب عزام بك، وزير مصر المفوض في جدة سابقاً، وقال له: إني أحب الوقوف على هذه السوق، وآثارها البالية المندرسة، وكان الوزير متأهباً للسفر إلى الرياض فاستعَدَا أن يذهبا جميعا إلى سوق عكاظ، إذا رجع الوزير من الرياض، فصادف عند رجوعه أن كان صاحب السمو الملكي الأمير فيصل في جدة، فأمر الأمير خادمه عبدالمحسن العنقري أن ينصب الخيام هناك، ويرسل الخدم إلى ذلك الموضع؛ لتحضير ما تدعو إليه الحاجة، وقد فعلوا، ونصبوا الخيام إلى جانب العبيلات البيض في نفس عكاظ، وأمرني الأمير فيصل أن أقابل الوزير في المطار أنا وعبدالمحسن العنقري، ونذهب مع الوزير إلى سوق عكاظ، فأخذت معي جميع الدلائل التي أشرت إليها، فلما وصلنا إلى عكاظ قرأت على الوزير ما عندي من الدلائل، وكلما مررت على ذكر موضع كالحريرة، وشرب، والعبلاء، والعبيلات البيض، وجلدان، وقران يقول: أين هي؟ فأريه إياها، وتجَوّلنا فيه بالسيارة، ورأى الآثار القديمة والأرض المتسعة التي تسع العرب جميعها، وقد اقتنع أنه عكاظ، وأبدى موافقته التامة، وأخذ مني نسخة تحتوي على جميع الدلائل التي أشرت إليها، والفضل في ذلك يرجع إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل؛ لأنه هو الذي أمر بهذا الاكتشاف، وتحقيقه، والوقوف عليه».
دعوة الأمير فيصل بن فهد لإقامة السوق عام 1395هـ
ويتابع بحث الدكتور سعد الراشد جهود إحياء سوق عكاظ مشيرا إلى أنه في عام 1395هـ نبنى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز آل سعود الرئيس العام لرعاية الشباب، ومسؤول الأندية الأدبية آنذاك، فكرة إحياء سوق عكاظ، ودعا عدداً من الأدباء والشعراء لحضور مؤتمر تحضيري لهذه المناسبة بتاريخ 26 صفر 1395هـ، وألقى سموه كلمة في هذا المؤتمر قال فيها: «حينما فكرت رعاية الشباب في تجديد العهد بعكاظ فإنما هي تتخيل الصورة، ولا تملك تجسيدها، وإنما هي تنشر الحروف، ولا تملك تحويلها إلى شعر ولكنها -أي رعاية الشباب- جعلت في اعتبارها من يحول الخيال إلى حقيقة. ومن ينقل الحروف إلى شعر، أرادت من أحفاد النابغة، والأعشى، وزهير، وأضرابهم أن يعيدوا لعكاظ مجدها مطبوعاً بطبع الإسلام، مُطَعّما بواقع العصر، مشبعاً بروح الأخوة، ممثلاً لأمة تلتفت إلى ماضيها بعين الاعتزاز والفخار، فرعاية الشباب حينما دعتكم للاضطلاع بمسؤولية عكاظ، فلأنكم لذلك أهل، فعكاظ منكم وإليكم، وما أُخال كل واحد منكم قبل اليوم إلا وقد دعا لإحياء هذه السوق، أو تمنى إحياءها، وقد مرت بسبات عميق عبر قرون مضت. فمن حسن الطالع أن يكون إحياؤها على أيديكم، وأن تكونوا النخبة التي يسجل لها التاريخ هذا الشرف في عهد الفيصل الذي يعتبر إحياء السوق خطوة من خطواته الفساح على طريق التقدم والبناء والرقي».
وفي نهاية المؤتمر أعلن أن سوق عكاظ سيفتتح في شهر شعبان 1395هـ.
وقد تناقلت وسائل الإعلام ما قرره المؤتمر، ورحب به الأدباء والمفكرون، غير أنه حدث أن استشهد جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، وتوقفت بذلك فكرة إحياء السوق.
الأمير نايف يشكل لجنة لتحديد سوق عكاظ
وفي عام 1416هـ وعلى إثر تعرض أرض سوق عكاظ إلى نزاع من قبل بعض أصحاب الأملاك الخاصة المجاورين لها، وكثرة ما أثير في الصحافة من جدل حول تحديد موقع سوق عكاظ، والمطالبة بتحديد الموقع التاريخي للسوق وحمايته، صدرت موافقة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله وزير الداخلية آنذاك بالموافقة على ما رآه معالي محافظ الطائف بالنيابة، وأيده صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة من تشكيل لجنة عليا من وزارات الداخلية، والعدل، والمعارف، والزراعة والمياه، والشؤون البلدية والقروية، تكون مهمتها: تحديد سوق عكاظ، والمنطقة الأثرية المحيطة به، وتكليف وزارة المعارف (وكالة الآثار والمتاحف) بوضع علامات واضحة على حدود السوق من الجهات الأربع، وتعميد الجهة المختصة بمنع التعدي عليه، وتحديد الأراضي المحياة، وبدأت اللجنة أعمالها، ودرست الكتب المؤلفة عن سوق عكاظ قديماً، وحديثاً، وما نشر عن سوق عكاظ في الجرائد المحلية والخارجية، والاستئناس برأي الأستاذ عبدالله بن خميس، ووقفت اللجنة على منطقة السوق، واصطحبت معها بعض الباحثين، وذوي الخبرة، وقامت بجولات متعددة شملت حدود السوق المتفق والمختلف عليها، وأقرت اللجنة في محضرها أنه بعد الدراسة المستفيضة للكتب، والمقالات التي تتحدث عن سوق عكاظ، والوقوف مع الباحثين، وأهل الخبرة، وبعد الاستئناس برأي الشيخ/ عبدالله بن خميس ترجح لنا أن سوق عكاظ حسبما حدده أكثر المؤرخين والباحثين بأقوالهم وخرائطهم بمعالم ثابته كالعبلاء، والحريرة، ووادي الأخيضر يبعد عن مدينة الطائف بحوالي 35 كيلومتر تقريباً في الجهة الشمالية الشرقية على يمين الذاهب إلى الرياض، ويبعد عن الخط السريع بحوالي أحد عشر كيلو متراً، من الجسر الأول للعرفاء، مع الطريق المتجه لقرى عدوان، وهذا الموقع عبارة عن أرض فيحاء واسعة خالية من الجبال، والأودية، وفي طرفها الجنوبي صخرات تسمى الأثيداء، والسرايا، ذكر بعض الباحثين احتمال أن تكون المنبر الذي كان يتبارى عليه الشعراء لاتساع المنطقة التي تقع فيها هذه الصخرات. وموقع السوق يبعد عما يسمى بقصر مشرفة بحوالي اثني عشر كيلومتراً، وبهذا يتضح أنه غير داخل في السوق.
والواقع أن مساحة سوق عكاظ كانت أوسع مما حددته اللجنة، فالسوق التي كانت تشهده القبائل المختلفة وبأعداد وصفت بالألوف لا بد أنه كان في فضاء واسع من الأرض، يتسع لمنازل القبائل، ويناسب استقلالية كل قبيلة عن الأخرى، ويتسع لسروح الإبل، والأغنام التي يجلبها مرتادو السوق، وعروض التجارة، والنشاطات الاجتماعية، والأدبية، وأحداث الحروب التي شهدتها أرضه.
الأمير خالد الفيصل يتبنى إحياء السوق
وبمباركة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله، وحينما باشر صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مسؤولياته أميراً لمنطقة مكة المكرمة، تبنت إمارة المنطقة فكرة إحياء «سوق عكاظ» بعد انقطاع 13 قرناً؛ ليكون السوق أحد أهم مخرجات الإستراتيجية التنموية للمنطقة، وتم تشكيل لجنة إشرافية على السوق مكونة من: إمارة منطقة مكة المكرمة، الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وزارة الثقافة والإعلام، وزارة التعليم. حيث انطلقت أول دورة للسوق في عام 1428هـ/ 2007م.
وقد أكد صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني رئيس اللجنة الإشرافية العليا لسوق عكاظ في تصريح صحفي أن الجهود الكبيرة لصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، خلال السنوات العشر الماضية التي أنجزت معلماً ثقافياً بارزاً أصبح قبلة للباحثين وأسهم في استقطاب عدد كبير من الزوار، مؤكداً سموه أن الخطة التي رسمها الأمير خالد الفيصل سيتم مواصلة العمل بها والبناء عليها ليخرج السوق كما أراد له سموه عند إنشائه.
كما بين الأمير سلطان بن سلمان أن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لا تنظر إلى موقع سوق عكاظ على أنه مجرد موقع للتجارة فقط، بل تنظر إلى هذه البقعة الجغرافية على أنها كانت بوتقة التلاقح للأفكار، وتوطين المعرفة، وإحدى المحطات الكبرى التي بشر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بظهور الإسلام.