د. ناصر بن علي الموسى
فوجع الوسط التربوي بالمملكة في وفاة ابن بار من أبنائه، ومرب فاضل من مربيه، وقائد فاعل من قادته، وعلم بارز من إعلامه، ورمز شامخ من رموزه هو سعادة الأخ الكريم، والزميل العزيز، والصديق الحبيب الدكتور/ عبد الله بن عبد العزيز المعيلي - رحمه الله - الذي انتقل إلى جوار ربه فجر يوم الخميس الموافق الخامس من شهر شوال لعام 1438هـ، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض.
وكان الدكتور/ عبد الله - رحمه الله - قد ولد في سنة 1376 هـ بعود التويم، وهي إحدى قرى سدير التي كانت تتسم بالهدوء، وتحيط بها بساتين النخيل، وقد نشأ الدكتور/ عبد الله في هذه القرية يتيماً، حيث توفى والده وهو لم يتجاوز سن الرابعة بعد.
وكان لوفاة والده قصة بطولية فيها تضحية وفداء، وهي مشهورة يعرفها أهل العود، وأهل التويم، وأهالي القرى المجاورة في سدير، إذ إنه - رحمه الله - قد ضحى بأغلى ما يملك، وهي نفسه، وذلك عندما حاول إنقاذ صديقيه العزيزين المختنقين في أحد أبار العود بسبب الدخان الكثيف الذي ملأ البئر منبعثاً من الآلة التي كانت تستخدم لدفع الماء من البئر إلى أعلى، وهي ما يعرف بـ (ماطور الماء)، غير أنه لم يتمكن من إنقاذهما، بل اختنق معهما، وقضى الثلاثة نحبهم - رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة - وكان هذا الحادث خطباً جللاً، وحدثاً جسيماً، ومصاباً أليماً قض مضاجع أهالي سدير في ذلك الوقت.
ويذكر الدكتور/ عبد الله أنه لم يتأثر كثيراً بهذه الفاجعة في وقتها لحداثة سنه، لكنه تأثر تأثراً عميقاً بها بعد أن عرف تفاصيلها - فيما بعد - وأدرك تداعياتها.
وحيث لم يكن في العود مدرسة، فقد التحق بابتدائية التويم التي كان يتردد إليها مع زملائه مشياً على الأقدام، ثم درس المتوسطة في روضة سدير، وكان يذهب إليها مستخدماً الدراجة الهوائية، أما الثانوية فقد درسها في حوطة سدير، وفي هذه المرحلة صار يستخدم السيارة، وللدراسة الجامعية انتقل إلى مدينة الرياض، حيث التحق بكلية التربية بجامعة الملك سعود، ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل واصل دراساته العليا - أثناء حياته العملية - حتى حصل على درجة الدكتوراه.
وكانت حياته العملية حافلة بالنشاط والحيوية والجد والإخلاص والتفاني، تدرج خلالها في مختلف المناصب التعليمية والتربوية، وقد بدأها معلماً في إحدى المدارس الثانوية، ثم عين مشرفاً تربوياً، فمديراً للشؤون التعليمية بإدارة تعليم الرياض، وبعد ذلك انتقل إلى وزارة المعارف - كما كانت تسمى آنذاك - إذ عمل مديراً عاماً للإشراف التربوي والتدريب، ثم كلف إضافة إلى عمله هذا بالعمل وكيلاً مساعداً للتطوير التربوي، وأخيراً اختتم مشواره في العمل الحكومي بتعينه مديراً عاماً للتعليم بمنطقة الرياض، وبعد ذلك تفرغ للعمل الخاص، حيث أسهم مع نخبة من التربويين في تأسيس مدارس ابن خلدون الأهلية.
وقد عرفت أبا عبد العزيز عن قرب، فهو أحد رفقاء الدرب، وقد عملنا في وزارة التعليم معاً، وسافرنا داخل المملكة وخارجها معاً، وسكنا في مكان واحد معاً، ولم أعرف عنه - رحمه الله - إلا كل خير، فقد كان نعم الأخ، ونعم الصديق، ونعم الرفيق، وكان ذا شخصية مؤثرة، يتسم بالذكاء والفطنة وسرعة البديهة وبُعد النظر، وقوة الإرادة، والإصرار والعزيمة، وغير ذلك من الصفات القيادية التي مكنته من تحقيق نجاحات باهرة أثناء حياته العملية، وفوق هذا كله كان يتمتع بصفات عديدة، ومزايا حميدة، وسمات فريدة، يأتي في مقدمتها التواضع الجم، والخلق الرفيع، والتعامل الراقي، إلى جانب العلم الغزير، والأدب الوفير، والرصيد الهائل من الخبرات التراكمية مما أكسبه إعجاب الجميع ومحبتهم.
وكان - رحمه الله - يحمل فكراً تربوياً أصيلاً، ورؤىً وأفكاراً تعليمية واضحة، وتطلعات وطموحات كبيرة لتطوير التربية والتعليم في بلادنا الحبيبة.
والدكتور/ المعيلي كان كاتباً رصيناً، ومتحدثاً لبقاً، ومحاوراً جيداً، يغلب عليه الهدوء والسكينة، وتشعر في صوته بالدفء والطمأنينة، يأسرك بأسلوبه، ويعجبك بأطروحاته، ويطربك بحسن اختيار عباراته حتى ولو خالفك في الرأي.
ويجمع الذين يعرفون أبا عبد العزيز على أنه كان قد نذر نفسه ووقته وجهده طيلة حياته في سبيل خدمة دينه، ثم مليكه وبلاده، وكان شديد الافتخار والاعتزاز والانتماء إلى قيادته وأمته ووطنه، إضافة إلى استشعاره لأهمية كل ما أوكل إليه من مهام، مع الحرص التام على تنفيذها بكل دقة وصدق وأمانة.
ويبقى جانب مهم في حياة هذا الرجل الطيب، وهو أنه كان قريباً من ربه - ولا نزكي على الله أحداً - وكان باراً بوالدته، محباً لزوجته، شغوفاً بتربية أبنائه وبناته، فخوراً بصحبة إخوته وأخواته، وبشكل عام كان - رحمه الله - يتعهد أسرته بكامل أفرادها بالحب والرفق، والعناية والرعاية، والاهتمام والاحترام.
ولا شك أن وفاة هذا المربي الكبير تعد خسارة كبرى للأوساط التربوية والتعليمية بالمملكة، غير أن أكثر المتأثرين برحيله، وأكبر المتألمين لفقده هم والدته وزوجته وأولاده وبناته وإخوانه وأخواته، إذ إنهم قد ودعوا أعز وأعظم وأعطف وألطف إنسان في حياتهم، وفي كل الأحوال فإنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول ما يرضي ربنا: «{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ}»، وندعو الله - سبحانه وتعالى - أن يتغمد أبا عبد العزيز برحمته الواسعة، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل كل ما أصابه في هذه الدنيا تكفيراً وتمحيصاً لذنوبه، ورفعاً لدرجاته، وأن يكتب كل ما قدم في موازين حسناته، وأن يلهمنا ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.