د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** نقل الشيخ حمد الجاسر رحمه الله مقولةً لم ينسبها لمصدر تنصُّ على أن «أسعد الشعوب هو الشعب الذي لا تاريخ له» وأضاف أنهم «يقصدون الشعب الذي لم تحدث في حياته حوادث تستحق عناية المؤرخين» (مؤرخو نجد من أهلها- مركز حمد الجاسرالثقافي- ص 11-2015م)، ولعل معنى المقولة يتجلى حين يتأمل العربيُّ يومَه المعتم ويقارنُه بأمسه المضيء فيأسى دون أن يجد لأساه فرجةً تعيد ماضيَه أو «أمنيزيا» تعفيه من التذكر والتفكر.
** وهنا استفهامٌ مهم؛ فهل المؤرخ مهموم باستدعاء الماضي وتوثيقه وتحقيقه فقط؟ وأين الغدُ من أبحاثه إذا أيقنا أن الأمس منطقٌ ونطاقٌ ومنطلق؛ فالأحداث لا تجيءُ عبثية، كما أن لكل مكانٍ شخصيته، ومنهما (الحدث والمكان) إضافةً إلى الإنسان يجيءُ الواقع ويُتنبأُ بالوقائع؟
** ليس كل المؤرخين قادرين على فلسفته أو ما يمكن تفسيره بمغازي حِراكه والقوانين التي تتحكم بمساراته والاستشراف الذي يقود إلى تداعياته كما وعيناها في مقدمة ابن خلدون قديمًا وفي دراسات قسطنطين زريق وعبدالله العروي وكذا هيغل وتوينبي وفوكو وسواهم؛ فقلة من عُنوا بالمستقبلية عبر ماضوية التأريخ، وهو ما يجعل التساؤل ممتدًا بحجم أعداد المؤرخين «الحكواتيين» الذين يقتصر دورهم على ذكر الوقائع وإغفال التوقعات.
** لم يكن ولن يكون التأريخ مجرد «قصصٍ» للتسلي والتدبر، كما أنه لا يُعيد نفسَه مثلما نفترض؛ فالقراءاتُ المتعددة للأحداث تنسف نظرية التكرار، والدراسات المستقبلية قادرةٌ على صوغ رؤىً استشرافية لا تستعيد الحدث بل تفصله وتؤوله وتستقي منه ملامح الغد وَفق شروطٍ ومتغيراتٍ متجددة.
** وفي الأزمات التي تعيشها الأمة منذ فجر نهضتها مطلع القرن التاسع عشر الميلادي والتأريخ مسرحٌ للحكَّائين الذين يقتنصون منه ما يوافق أهواءَهم أو اتجاهاتهم دون أن يضعوا في قواعد استقراءاتهم اختلاف المكان والزمان والإنسان؛ فلن تعود «العُمريةُ» ولو عاد عمر، كما لن تنتصر «الصلاحيةُ» ولو بُعث صلاحُ الدين، وانتهى «هتلر» و»صدام حسين» ولو حكما من جديد، وكذا فما أسقط الدول كالأموية والعباسية والفاطمية والأندلسية مختلف بينها كما عن سواها مما قام معها أو تلاها.
** التأريخ ليس جامدًا ذا قوالب جاهزة يمكن تفصيلُها تبعًا لمقاسات الأدلجة والبرمجة؛ فمزيتُه حركته الدؤوبة المتبدلة المستعصية على الاستنساخ في الوقت الذي تأبى معه الانسلاخ فتتصل بظرفها كما تنفصل عنه، وترى واقعها وتعجز عن التنبؤ بغدها.
** نحتاج للمؤرخين المستقبليين القادرين على الانعتاق من تحليل الحكاية المجردة إلى المقارنة والمقاربة والربط و»الولاء للمستقبل» – كما اعتنق قسطنطين زريق – وهو ما يعني تغيير مناهج التأريخ بدءًا من المراحل التعليمية المبكرة وصولاً إلى تخريج مختصين في استنطاق الآتي وليس ترديد الفائت.
** التأريخ رحلةٌ لا مرحلة.