د. فهد صالح عبدالله السلطان
قدّر لي أن أؤدي صلاة الفجر الأحد الماضي في مسجد في حي النهضة شمال مدينة بريدة، وقد لفت انتباهي شاب سعودي حسن المظهر والملبس لم يتعد الثانية عشرة من العمر يحمل أدوات تنظيف مرتبة ويقوم بتنظيف المسجد بما في ذلك مسح حاملات المصاحف الخشبية بطريقة احترافية مهنية وبإخلاص لافت للنظر. ولم يتوقف حتى قام المؤذن بالنداء لإقامة الصلاة. مظهره لا يوحي بأنه سليل أسرة فقيرة أو بيت عوز إلا أنني اعتقدت - وانطلاقاً من ثقافة المجتمع المترسخة لدي والمبنية على تربية الرفاه - أنه من بيت عوز ويتقاضى أجراً على ذلك وبالتالي فإن من واجبي أن أساهم في تمويل ودفع مستحقات عامل النظافة هذا الذي وبالتأكيد ليس عاملاً رسمياً بسبب صغر سنه. افتقدته بعد الصلاة وسألت عنه المؤذن.. فكانت المفاجأة.. هل تقصد ذلك الشاب الصغير الذي يقوم بتنظيف المسجد؟ قلت نعم. قال إنه ابن الشيخ فلان الذي تبرع بأرض المسجد على نفقته الخاصة، بل هو ابن رجل ملي يتصدَّق على الآخرين من ذوي الحاجة والعوز.. وأضاف المؤذن: إياك وأن تخطئ في التصدّق عليه فهو لا يتقاضى أجراً وليس من أهل الصدقة. حينها أدركت أن ما أحمله عن انطباع عن ثقافة الرفاه قد لا ينتمي لشباب هذه المنطقة ولا ينطبق عليهم. نعم، هؤلاء هم أهل القصيم.. ابن الغني يقوم بتنظيف المسجد بيديه، بل يجيد القيام بعمل النظافة دون أي شعور بالكبرياء أو الترفّع. مجتمع عمل لا يعرف الكلل.
في القصيم تتعلَّم الفتاة إدارة المنزل بما في ذلك تربية الأبناء وإجادة الطبخ قبل بلوغ سن العشرين دون أن يتعارض ذلك مع مسارها التعليمي، ربما أن ذلك يفسّر تدني نسبة الطلاق في المنطقة. ويتعلّم الشاب القيام على الأسرة وهو في سن المراهقة، بل كان الآباء يقضون شهوراً عديدة خارج الوطن فيما يُعرف برحلات العقيلات ويقوم الأبناء برعاية العائلة وإدارة شؤون الأسرة وهم في سن مبكرة جداً. عندما زار أمين الريحاني مدينة بريدة في مطلع القرن العشرين وصف أهلها في مذكراته بأنهم أناس « ليس لديهم وقت إلا للعمل والصلاة».
الكل هنا يعمل. ليس هناك ازدراءً لأي عمل، المهم أنه عمل شريف. لا تكلّف نفسك في البحث عن مهنة (وضيعة) في قاموس العمل هناك. هناك من يعمل في صناعة الأحذية بيديه وهناك من يعمل في حقل والديه وهناك من يعمل في تحميل البضائع في سوق الخضار.. وهناك من يعمل في تحميل التمور وتصنيعها وتحميل البطيخ وتسويقه وتجهيز الحفلات وخدمتها.... إلخ. المهن متعددة والمساحة تتسع للجميع والناس تحب العمل وتقبل عليه بشغف.
الذي أردت أن أصل إليه هو أن ثقافة العمل وممارسته لدى أهل هذه المنطقة حالة تستحق الدراسة... لعلنا نستفيد من ذلك في مناهج التربية على المستوى الوطني، فهناك ما يُعرف علمياً بإدارة المعرفة (Knowledge Management ( والتي يمكن أن نستثمرها في نشر مفاهيم العمل وممارسة الأعمال وثقافة روح المبادرين (Entrepreneurs ) التي تصبغ قطاع الأعمال هناك.. وخصوصاً أنها تتناسب مع بيئة العمل في مجتمعنا السعودي الكبير. من المؤسف أن الشعوب الخليجية هي أكثر شعوب العالم استخداماً للخدم؛ وذلك حسب دراسة مسحية حديثة تؤكّد أيضاً أن ذلك لا يعود للثراء فقط، بل إلى ثقافة المجتمع. وذلك على الرغم من الهدي النبوي الذي يؤصِّل ثقافة التعاون والعمل في المنزل وخارجه، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله: يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله.
اختلف تماماً مع أولئك الذين يعزون ارتفاع معدل البطالة في المملكة إلى تدني مخرجات التعليم، فقطاع الأعمال لدينا لا يشتكي من تدني مستوى مهنية الأفراد. عملت في مجلس الغرف السعودية تسع سنوات ونادراً ما أسمع من رجال الأعمال تذمراً من مهنية السعوديين أو قدراتهم الفنية، بل تنصب ملاحظات أصحاب الأعمال على ثقافة العمل لدى العاملين بما في ذلك سلوك العاملين الوظيفي وتدني حب العمل لدى الكثير منهم. إذاً الموضوع ثقافة وتربية أكثر منه مهنية. ارتفاع نسبة السعودة في القصيم تؤكد هذه القناعة.
أعود وأقول إذا كان همنا الوطني الأول هو الحد من البطالة، فإن ثقافة العمل وممارسته لدينا موضوع يستحق الدراسة أكثر من غيره، ربما تُؤخذ القصيم كحالة.
والله الهادي إلى سواء السبيل،،،،