د. محمد بن إبراهيم الملحم
الكتاب الإحصائي السنوي 2016 الصادر عن الهيئة العامة للإحصاء تضمن في الفصل الرابع منه "الأعمال الإحصائية الجديدة لدعم خطط التنمية"، التي تهدف لخدمة رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020. وقد ورد التعليم ضمن هذه المجموعة في صيغة تبشر بالخير؛ إذ أشارت فقرة "مسح التعليم والتدريب" إلى أن سنة القياس الأولى هي هذا العام 2017، وأنها تستهدف الخروج بمؤشرات تعليمية، يمكن ربطها ومقارنتها بالإحصاءات الصادرة عن القطاعات الأخرى. وفي ذلك مساعدة لمتخذي القرار نحو السياسة التنموية. وقد كانت الجوانب المستهدفة كما تضمنتها هذه الفقرة: ترسيخ القيم، وبناء شخصية مستقلة، وتعزيز مشاركة الأبوين، والتركيز على المهارات اللازمة لاحتياجات سوق العمل. وقد وضحت أن المؤشرات الأساسية لذلك هي: معدل الالتحاق، معدل القراءة والكتابة، نسبة الأمية، ونِسَب السكان حسب المؤهل.
وأعتقد أن الاقتصار على هذه المؤشرات الأربع هو تكرار للممارسة الإحصائية التقليدية؛ إذ يتم التركيز على الجانب الكمي البحت كمؤشر نوعي "احتمالي". إن الاقتصار على ذلك دون التقرب من الجانب النوعي الحقيقي هو خداع للذات، وهروب من الحقيقة. وسوف أوضح فيما يأتي بدائل مناسبة.
أغلب الكتّاب يهتمون بدراسة أثر التوسع في المدارس على النمو الاقتصادي، بينما لا يهتمون بنوعية التعليم وعلاقته بالاقتصاد؛ لذلك فإن عامًا دراسيًّا واحدًا لن يعطي النتائج نفسها من تحصيل المهارات المعرفية بالدرجة نفسها بين الجميع. وتتعدد رؤى أطروحات اقتصاديات التعليم حول الأثر النوعي للتعليم على الاقتصاد من زوايا عدة، مثل إنتاجية الفرد، سرعة اكتسابه التقنيات الحديثة، صحة الأفراد وتكاثرهم، توزيع الثروة. ولأن هذه نتائج لجودة التعليم فهي صالحة كمؤشرات لتوفر جودة التعليم في بلد ما، ولها أساليب قياس ورصد جيدة. ولكي تفهم هذه العوامل بطريقة صحيحة يجب أن نوضح بعض الاعتبارات التفسيرية. فمثلاً إنتاجية الفرد لا تكون بمتوسط ساعات العمل التي يقضيها في مكان العمل، وإنما بكمية الإنتاج الذي يقدمه بما يعود على الاقتصاد. فعدد الساعات "الفعلي" لأداء الموظف يعكس وعيه واكتسابه القيم ودرجة الثقافة الجادة التي يتحلى بها، وهي نتائج مباشرة للتعليم النوعي. أما عامل سرعة اكتسابه للتقنيات الحديثة فلا يقاس بكمية الأجهزة التقنية الحديثة المتداولة، كالجوالات الذكية والحواسيب؛ فهذا الأسلوب كان مستخدمًا في السابق بداية الثورة التقنية (السبعينيات والثمانينيات)، وإنما هو اليوم بكمية استخدام التطبيقات والبرامج النوعية التي تسرع العمل وتقلص الوقت الضائع في العمليات، سواء للشأن العملي أو الشخصي. كما يظهر في هذا السياق أيضًا سرعة توظيف التقنيات الحديثة في المجتمع، مثل الروبوت والتحكم عن بُعد، وما إلى ذلك مما تتردد عن التعامل معه عادة المجتمعات الأقل معرفيًّا.
مجموعة أخرى من مؤشرات الجودة النوعية للتعليم هي المؤشرات الثقافية: كمية تداول الكتاب (التداول وليس المبيعات فقط)، نسبة القراءة، جمهور البرامج الثقافية، سواء الجماهيرية أو عبر الإعلام المسموع أو المرئي، إقبال الناس على منصات المعرفة كالمكتبات والنوادي الثقافية والمسارح الثقافية ومعارض الفنون الجميلة ومراكز الصحة واللياقة ومراكز التدريب الإثرائي (التعلم مدى الحياة)، وكذلك تناقص المشكلات الأسرية والنفسية حسب رصد المراكز والمؤسسات المتخصصة، بما فيها المستشفيات.
أكبر مؤشر لجودة التعليم هو ازدهار البحث العلمي الأصيل. وعندما يقال "الأصيل" Authentic فإنه يعني ذلك المستهدف لأساسيات العلم، سواء بالابتكار أو التطوير. ولا يقتصر ذلك على العلوم البحتة والتقنية بل حتى في مجالات العلوم الإنسانية؛ فازدهار البحث العلمي فيه دلالة على تعليم نوعي جيد لتلك المجالات.
أسوق هذه المؤشرات لكم أيها الأعزاء لنتأمل جميعًا إلى أي مدى تتوافر هذه المؤشرات لدينا. وأعتقد أننا لسنا بحاجة ماسة إلى بحث أو استقصاء علمي لنتعرف على ذلك (مع أهميته من باب الدقة)؛ فالوضع الحالي يشير إلى تراجع كبير في أغلب هذه المؤشرات؛ ويعني بالتالي ضعف الجودة النوعية للتعليم. هناك مؤشر آخر كثيرًا ما يستخدمه الباحثون، وكذلك المؤسسات الحكومية؛ للحكم على الجودة النوعية للتعليم، هو تقدُّم طلاب الدولة في اختبارات الدراسات الدولية المقارنة، مثل تيمس TIMSS وبيرلز PIRLS. وسوف أتحدث عنه لاحقًا بإسهاب لأهميته الخاصة.