أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: صدر كتاب الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- (الرد على المنطقييين) عن دار المعرفة ببيروت بتقديم سليمان الندوي، ووزعته دار الباز بمكة المكرمة؛ والكتاب نفسه، والطبعة نفسها: يحتاجان إلى تحقيق وخدمة أكثر: تقديماً، وضبطاً، وتحشيةً، وترتيباً؛ بسبب كثرة استطراد المؤلف، وكثرة إحالاته إلى مباحث ذكر أنه استوفاها؛ وبرجوعي إلى بعضها رأيت أنها إحالة إلى بحث آخر ليس فيه إلا الإحالة إلى بحث آخر أيضاً؛ ثم أرجع إلى ذلك البحث فأجده أحال فيه إلى بحث آخر أيضاً؛ وهكذا.. إلخ؟!!.. وبهذا يصاب القارئ بالدوار.
قال أبو عبدالرحمن: وأضرب المثال بأحد مباحثه؛ وهو تفريعاته عن الحد الأرسطي ص 7 87؛ ولسوء الفهم لما أراده (أرسطو) في كتابه عن عصمة منطقه الذهن البشري من مقدمات سوفسطائية معينة، وأنه لا يريد عصمة منطقه العقل البشري بإطلاق: كثرت في كتاب الإمام ابن تيمية الأخطاء الشنيعة التي أوجزت القول عنها في الأسبوع الماضي؛ فرأى - رحمه الله تعالى- أن ما عرفه الإنسان أو علمه لا يحتاج إلى حد مع علمه بأن الحد ضرورة شرع، وضرورة عقل؛ وإنما صده عن هاتين الضرورتين إيمانه بأن الحد الجامع المانع متعذر؛ أي مستحيل؛ وهذا غفلة منه عن مراد (أرسطو)؛ وهو أن الحد الجامع المانع غير متعذر؛ لأن المراد الجمع والمنع لما هو مشترك بين المرسل والمتلقي بصيغتي اسم الفاعل سواء أكان ما عند المتلقي مطابقاً ما عند المرسل، أم كان معلوماً عنده بالوصف كأن لا يكون قد ذاق العسل؛ فيقربه له المرسل بحلاوة السكر الذي قد ذاقه، وحلاوة الدبس الذي قد ذاقه؛ ولا يريد (أرسطو) الجمع والمنع لما لم يعرفه ولم يعلمه كل من المتلقي والمرسل معاً.
قال أبو عبدالرحمن: وإليكم نموذجاً آخر من سوء الفهم لمراد (أرسطو) المتعلق بالتجربة.. قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى- في كتابه (الرد على المنطقييين) ص 9293 عن المجربات التي تحصل بالحس والعقل: ((وكذلك المجربات؛ فعامة الناس قد جربوا أن شرب الماء يحصل معه الري، وأن قطع العنق يحصل معه الموت، وأن الضرب الشديد يوجب الألم.. والعلم بهذه القضية الكلية تجربي؛ فإن الحس إنما يدرك رياً معيناً، وموت شخص معين، وألم شخص معين.. وأما كون كل من فعل به ذلك يحصل له مثل ذلك: فهذه القضية الكلية لا تعلم بالحس؛ بل [ذكر الندوي أن ههنا بياضاً بقدر كلمة؛ وهذا دليل على أن الإمام لم يراجع كتابه بعد تسويده] بما يتركب من الحس والعقل؛ وليس الحس هنا هو السمع.. وهذا النوع قد يسميه بعض الناس كله (تجربيات)، وبعضهم يجعله نوعين: تجربيات، وحدسيات.
قال أبو عبدالرحمن: أكتفي في هذه السبتية ببيان: أن التجربة حس مركب، وليس حساً بسيطاً؛ فالحس البسيط مثل العلم بأن العسل ذو حلاوة ممزوجة بحموضة كحموضة الليمون، والحس المركب؛ التجريبي كالعلم بأن هذا العسل ذو شفاء؛ وبهذا ورد النص القرآني الكريم، إلا أن المجرب حدد بعلمه نوع هذا الشفاء في عضو أو في عدد من الأعضاء محددة.. وأبين في هذه الحلقة أيضاً: أنه لا قيمة لهذا الحس البسيط أو المركب إلا بحضور العقل؛ فإذا شغل العقل بشيىء آخر أصبح الحس بقسميه كأن لم يكن.. ثم قال الإمام ابن تيمية ((فإن كان الحس المقرون بالعقل: من فعل الإنسان كأكله وشربه وتناوله الدواء: سماه تجريباً؛ وإن كان خارجاً عن قدرته كتغير أشكال القمر عند مقابلة الشمس سماه تجريباً.. والأول أشبه باللغة[؛ يعني فعل الإنسان]؛ فإن العرب تقول:[فلان مجرب] بالفتح [؛ أي فتح الراء المشددة] لمن جربته الأمور وأحكمته وإن كانت تلك من أنواع البلايا التي لا تكون إلا باختياره)).
قال أبو عبدالرحمن: كلا الأمرين من فعل الإنسان الذي منحه ربه هذه القدرة؛ لأن رؤيته أشكال القمر عند مقابلة القمر الشمس هي فعل رؤيته؛ وغاية ما في الأمر أن رؤيته القمر هي فعله النسبي؛ أي بالنسبة لحال نوع الرؤية حال مقابلة القمر الشمس؛ وهكذا رؤيته القمر جبالاً وودياناً؛ فهذه حال القمر إذا كانت الرؤية مكبرةً بالتلسكوب؛ وهذا دون رؤيته بالعين المجردة، وإلى لقاء في السبت القادم - إن شاء الله- لاستكمال هذه المسألة، والله المستعان.