د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لم تجد الفاصلة القرآنية الاهتمام المتوقع بين دراسات البلاغيين، وكل ما يذكرونه مجرد كلام نظري وإشارات تطبيقية يسيرة لا تتجاوز السطر والسطرين، دون أن يقف أحد منهم وقفةً طويلةً متأملة، تسعى إلى استكناه بعض الجماليات الدلالية والإيقاعية التي تزخر بها فواصل القرآن، ولعلي هنا أحاول أن أستجلي بعض هذه الجماليات من خلال تحليل بلاغي تطبيقي على فاصلةٍ بديعةٍ خُتمت بها إحدى سور هذا الكتاب المعجز، سبق أن تناولتها في أحد مؤلفاتي، مستعيناً ببعض المصادر التي تضيء الطريق للفهم والتوضيح.
يقول المولى سبحانه في آخر آية من سورة الانفطار: (يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمرُ يومئذٍ لله)، فلما تقدَّم أنَّ يوم الدين هو الموعد الذي فيه سينال كلٌّ جزاءه، تساءل القرآن عن هذا اليوم تساؤل تهويلٍ وتخويف، ثم أجاب عنه بهذه الآية التي لخَّصت ماهية ذلك اليوم، وكانت ختاماً بديعاً للسورة الكريمة.
و(يوم) بالنصب على تقدير: أعني يوم، أو: يُجازون يوم، ودلَّ عليه ذكر الدين، وقُرئ بالرفع أي: هو يوم، وتنكير نفسٍ هنا للعموم، فهي تشمل نفس المؤمن والكافر، والتعريف في (الأمر) للاستغراق، فيعمُّ كلَّ الأمور، وهو هنا بمعنى التصرُّف والإذن، و(شيئاً) اسمٌ يدلُّ على جنس الموجود، وهو مُتوغِّلٌ في الإبهام يُبيِّنه ما دلَّ عليه فعل (لاتملك)، أي: شيئاً يُغني عنها وينفعها. وظاهر الآية التقييد بالظرف (يومئذ)، ولكنَّ الأمر لله في ذلك اليوم وقبل ذلك اليوم. ومجيء الظرف هنا لزيادة التأكيد؛ لأنه قد يكون في الدنيا لبعض الناس بعض الأوامر، وهذه الآية تُفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ.
وقد جاء لفظ الجلالة (الله) المجرور باللام فاصلةً لهذه الآية الكريمة التي خُتمت بها السورة، وقد استقرَّت في الأذهان أجمل استقرار، وتمكَّنت في النفس أفضل تمكُّن، إذ جاءت في سياق تقرير حقيقةٍ عظيمة، لها من الدلالات والإيحاءات ما يجعل النفس البشرية تتصوَّر ذلك اليوم المخيف، وتتصوَّر حالها معه، ومقدار ما تستطيع أن تتصرَّف فيه حينئذ، وتستوعب مصيرها ومقدرتها على إغناء نفسها أو غيرها في جلب نعيمٍ أو دفع عذاب.
فبعد أن أعلن القرآن الكريم عن مصير الناس، وأخبر أنَّ الفجار منهم سيصلون الجحيم ولن يغيبوا عنها طرفة عين، بيَّن أنَّ وقت هذا الصلي هو يوم الدين الذي بلغ من عظمته وضخامة هوله أن تساءل عنه القرآن تساؤلاً مكرَّراً ليزيد في الاستهوال، وليُوقع في الحسِّ «أنَّ الأمر أعظم جدَّاً وأهول جدَّاً من أن يُحيط به إدراك البشر المحدود، فهو فوق كلِّ تصوُّر، وفوق كلِّ توقُّع، وفوق كلِّ مألوف».
ثم يُجيب القرآن الكريم على هذا التساؤل بما يتناسق مع هذا التصوير، فهذا اليوم هو اليوم الذي لا تملك فيه نفسٌ من النفوس لنفسٍ أخرى شيئاً من النفع أو الضر، وإنما يؤول الأمر كلُّه لله، فلا يملك شيئاً من الأمر كائنٌ مَن كان؛ ولذلك جاءت جملة (والأمر يومئذٍ لله) تذييلاً لما قبلها وتحقيقاً لها، للدلالة على أنهم مسوسون بربوبيته المتسلِّطة، ومقهورون مشتغلون بأنفسهم.
وتتجلَّى روعة الفاصلة في الكشف عن هذه الحقيقة العظيمة، فإذا كان الخلق لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم- شيئاً في ذلك اليوم العظيم، فإنَّ معنى هذا أنَّ خالقهم ومالك هذا اليوم هو المتفرِّد بالأمر حينها؛ ولذلك انتهت هذه الآية الكريمة -وكذلك السورة- بهذه الفاصلة (الله) لتؤكِّد -بما يوحيه لفظ الجلالة- عظمة ذلك اليوم، وتصوِّر الهول الذي يكتنف قلوب الخلق، والرعب الذي يُصيب نفوسهم، وهو الرعب والخوف والهول الذي يطغى على جوِّ السورة الكريمة منذ بدايتها.
وهنا يحضر سؤال مهم: لماذا أُوثر لفظ الجلالة (الله) فاصلةً لهذه الآية الكريمة دون غيره من أسمائه أو صفاته سبحانه، رغم أنَّ أغلب فواصل السورة بُنيت على الميم أو النون، خاصَّةً الآيات الأخيرة القريبة من هذه الآية، وهناك من صفات المولى سبحانه ما يُحقِّق تناسب هذا الإيقاع كالحكيم والعليم والرحيم وغيرها من الصفات التي انتهت بها كثيرٌ من آيات القرآن الكريم؟
هنا يتجلَّى الجانب اللفظي الإيقاعي متآزراً مع الجانب المعنوي الدلالي ليكشفا معاً عن سرِّ إيثار هذه الفاصلة البديعة التي لم تُختم بها آيةٌ في القرآن الكريم سوى هذه الآية، ولعلَّ ذلك يتبيَّن في الآتي:
1- الجانب الصوتي الإيقاعي الذي يُحقِّقه لفظ الجلالة (الله) هو الذي يتناسب مع الموقف ويتلاءم مع هذا السياق الذي وردت فيه، فالموقف موقف رعبٍ وخوف، وهولٍ وهلع، والسياق سياق تسليمٍ لأمر الله واستسلامٍ له، فكلُّ إنسانٍ مشغولٌ بنفسه، لا يملك له ولا لغيره ضرَّاً ولا نفعا، وهو موقفٌ عظيمٌ لا تسمع فيه إلا همسا، موقفٌ هادئٌ مرعب، صامتٌ واجمٌ جليل، ولعلَّ هذا مما يتناسب مع أصوات لفظ الجلالة (الله )، فالمدُّ يُوحي بأنه سبحانه مالك هذا اليوم، والخلق مسوسون مقهورون بسطوة الربوبية، وحرف الهاء الذي يبقى صداه في الأذن كآخر الأصوات التي تُختم به الآية - ومن قبلها السورة - من الأحرف المهموسة؛ مما يوحي بالهدوء المخيف والصمت الجليل الذي يُسيطر على الموقف، ويستولي على قلوب الخلق حينئذٍ ويتمكَّن من نفوسهم.
كما أنَّ أصوات الآية الكريمة جاءت لتتناسق مع هذا الهدوء المذهل وتتناغم مع الجوِّ العامِّ لها، فالتاء والكاف في (تملك)، والسين والفاء المكرَّرتين في (نفساً لنفس)، والشين في (شيئا)، كلُّ هذه الأحرف من الأحرف المهموسة التي تتناسب مع جوِّ الصمت والانحسار والانكماش الذي يعتري تلك النفوس المشغولة بهمِّها عن كلِّ مَن تعرف مِن النفوس.
2- ولعل إيثار لفظ الجلالة فاصلةً لهذه الآية الكريمة لأنه -وحده- يكشف عن تميُّز ذلك اليوم وتفرُّد ذلك الموقف، فهو موقف خشوعٍ وخضوع، وبدايةٌ لفصل القضاء ومحاسبة الخلق، وحينها تتوجَّه الأنظار إلى مالك ذلك اليوم وفاصل القضاء فيه، وتظهر عظمة المولى سبحانه وتتجلَّى هذه الحقيقة، فكان لفظ الجلالة العَلَم الذي هو آكد أسمائه وأشهرها هو المناسب لعظمة ذلك اليوم وتميُّز ذلك الموقف، ليقطع بذلك كلَّ شك، وينفي كلَّ احتمال، من أن يصير الأمر إلى غيره عز وجل.
3- ثم إنَّ الخطاب في هذه السورة مُوَجَّهٌ بدايةً إلى مشركي العرب الذين كانوا في مكة وقت نزول هذه السورة، ولعلَّهم حينها لم يكونوا يتأثَّرون بسماع صفات الله جل وعلا، ولم تكن تقرع أسماعهم وقلوبهم بالقدر الذي يُحدثه لفظ الجلالة (الله) في نفوسهم، فهو لا يخفى عليهم، وهم يعرفونه حقَّ المعرفة، فلعلَّ القرآن الكريم آثر لفظ الجلالة في هذا السياق المتميِّز والموقف المتفرِّد بسبب ذلك.
لذلك كلِّه جاءت هذه الفاصلة «التي تُركِّز الانتباه بانفرادها أولا، وتميزها ثانيا، وانتهاء النصِّ عندها ثالثا؛ لنكتةٍ بلاغيةٍ دينيةٍ ترمي إلى ردِّ الأمر كلِّه إلى الله تعالى، الذي كانت الفاصلة متضمِّنةً اسمه سبحانه، وفي الوقت الذي كان النصُّ بمجموعه ومضمونه يُمهِّد لهذه الخاتمة الشامخة باستقرار القرار على السكون بعد ألف المد».
وهكذا جاءت هذه الفاصلة خاتمةً للسورة الكريمة؛ لتُؤكِّد العظمة وتُقرِّر الحقيقة وتُحقِّق الإيقاع المناسب لجوِّ السورة والآية، وهكذا «يتلاقى هذا الهول الصامت الجليل في نهاية السورة مع ذلك الهول المتحرِّك الهائج المائج في مطلعها، وينحصر الحسُّ بين الهولين، وكلاهما مذهلٌ مهيبٌ رعيب، وبينهما ذلك العتاب المخجل المذيب».