د. جاسر الحربش
الأصدق بين كل من رفض التطبيع مع الاحتلال الصهيوني كان المرحوم الشاعر العربي المصري أمل دنقل:
لا تصالح ولو منحوك الذهب، أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى. أتنسى ردائي الملطخ بالدماء، أتلبس فوق دمائي ثيابا ً مطرزة بالقصب؟. كيف تنظر في يد من صافحوك فلا تبصر الدم في كل كف؟. إن سهما ً أتاني من الخلف سوف يجيئك من كل خلف.
إلى آخر الألم الذي قتل أمل دنقل قبل أن يموت.
صبر الأسبان على العرب ثمانمائة عام حتى ردوهم، ثم لحقوا بهم واحتلوا أجزاء من الأرض التي قدمت منها الجيوش العربية. صبر أهل الشام ومصر على الاحتلال الصليبي القادم من أوروبا مائتي سنة. لم يعترفوا بهم سادة على الأرض ولم يطبعوا، ولم تكن المقاومة إسلامية فقط، فالعرب المسيحيون في الشام ومصر لم يتحولوا إلى عملاء لأشباههم في الدين بل تشبثوا بالأرض العربية واللغة، وما زالوا يفعلون حتى اليوم والأرض يحتلها الغزاة الصهاينة. أدبيات العروبة عند النصارى العرب لا تقل عن مثيلاتها عند المسلمين.
بعض الحكومات العربية طبعت مع المحتل رغم وضوح القبح في فكره وأفعاله ونواياه، ولم تكن مضطرة لذلك. العزلة عن الشعوب جعلت تلك الحكومات المطبعة تصالح عدوا يكذب أكثر مما يتنفس ويشوه التاريخ والجغرافيا ويقتل النساء والأطفال ويهدم البيوت ويسرق التراث لينسبه لنفسه، ثم يبكي أمام العالم شاكيا همجية الضحايا وعدوانيتهم وعنصريتهم ضد العرق السامي الذي يعتقد أن الله اختاره وفضله على الآخرين ووعده بالأرض وأذن له أن يقتل ويحرق ويهدم ويغتصب ويصادر بالنص الإلهي الذي يتناقلونه جيلا عن جيل.
بعض الحكومات التي طبعت مع العدو تبادلت السفراء والقناصل والتجارة والنشاطات الثقافية والسياحية المسيرة، وبعض الحكومات احتالت بالمسميات. السفارات تسميها مكاتب تجارية أو علاقات تنسيق ثقافية، والبعض يغض الطرف مؤقتا عن زيارات أفراد من مواطنيهم واجتماعاتهم مع سياسيين وعسكريين صهاينة في القدس المحتلة.
لا توجد حكومة عربية واحدة ارتكبت سابقة التطبيع أو الاعتراف بعد أن استشارت شعبها أو من يمثله من سراة القوم، ولم تحصل واحدة منها على القبول الشعبي في مختلف التيارات بداخلها. ما حصلت عليه الحكومات المطبعة هو الصمت الرهيب، صمت من ينتظر الفرصة المناسبة للتعبير عن الرفض بالطرق المناسبة.
أراهن وأتحدى أية حكومة طبعت أو فكرت في التطبيع أن تغامر باستطلاع رأي الشارع بأية طريقة تختارها، من أقصى الشرق العربي إلى أبعد غربه، ولن تحصل سوى على أربعمائة مليون «لا» . أقولها بملء فمي، لن أطبع ولن أعترف حتى آخر رمق، طالت حياتي أم قصرت.