د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** كانت كلمةً من حكيم بفطرته قالها بعاميته لطفلٍ لم يتجاوز مرحلته: «هذا وهو بلحْ.. الله المعين إذا صلحْ»؛ أي هذه حالُه وهو صغير فكيف سيغدو حين يكبر؟ وبدت الجملةُ تعبيرًا عامًا لاءمت موقفًا خاصًا لم يحتجْ معه الشيخُ الحكيم إلى نهرٍ وزجرٍ بل إلى استنجادٍ بالذاكرة الشعبية كي يقول جملته ويمضيَ في طريقه؛ فإن وعاها المخاطَبُ حقق مراده وإلا فلم يخسرْ وقاره، وليس أسوأَ من انفلاتِ لغةٍ صبيانيةٍ ترمي الحجارة ولا تأبه بأذيةٍ لعابرٍ ولا بانسداد طريق.
** لم تكن التربيةُ محتكرةً للأبوين؛ فللجار وللمعلم ولضيف البيت وإمام المسجد حقٌ، ولم تكن متهاونةً في التفريق بين ما هو سلوكٌ خارجي وما هو شأنٌ داخلي، وكان للَّفظ البذيء جزاؤُه متساويًا مع الفعل الدنيء، ومن خرج عن النهج عُرف باسمه ووسمه كي يتجنبه أهلُ الحي ويُحذِّروا من مسايرته.
** استعاد صاحبكم مشهد «الشيخ والطفل» الذي وعاه قبل عقود وقارنه بما يراه اليوم في الشارع الحقيقي والعالم الافتراضي حيث لا حُرمةَ لراشدٍ ولا حجاب عن ناشئ، وليس أيسر من العنف القولي والفعلي يمارسه الجميع مع الجميع إلا من رحم ربي ممن عفَّت ألسنتُهم واستقامت أفعالُهم، وما أقلَّهم.
** كل هذا ممكنٌ وفي إطار المتوقع، أما أن يصبح الكبار هم مثيري الغبار الملوَّث بالسبِّ والشتم ورديء المفردات وسيء التعامل فلم يعد لمَثَل حكيمنا الأمي جدوى؛ فسفاهة الكبار لا برءَ منها، ومجاراة الصغار لهم لا غرابة فيها، ولا تعويل على دراساتٍ تبحث جذورها وبذورَها بعدما هرم البلح.
** سقطت الأقنعة بالمهاذرات والمهاترات، وتنازل الأعلَون للأدنين، وبات في أدوار التربية الجديدة حمايةُ الشداة من لغو آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم وإعلامييهم، وهيهات.
(2)
** هل الصورة بكامل محيطها معتمة؟ بالتأكيد: لا؛ فثمة ناشئةٌ ارتقوا بذائقتهم كما أذهانهم فأوجدوا لهم أجواءً لا تمرُّ بها قاذفات القذى، وهو ما يثبت الصورة المقلوبة بعدما صغر الكبار وكبُر الصغار، ومن ينأى عن الساحات الملأى في وسائط الإعلام الرقمي»تحديدًا» سيرى عوالمَ للمثاقفة والمعرفة والخدمة العامة لا تهتم بأرقام المتابعة ولا أثمان المعلنين.
** ولعل المفارقة أن مثل هذه الحسابات يديرها شبابٌ في عشريناتهم وثلاثيناتهم، والمعنيون بهم يشتركون معهم في بثِّ الجمال الحسيِّ والمعنوي، ولا يُضطرُّ من يشاركهم أجواءَهم إلى حظرٍ ولا يدنو من حظيرة.
** مع هؤلاء الشباب نكتشف عوالمَ مضيئةً «علميةً وتقنيةً وقرائيةً وفنيةً ومجتمعيةً» توجز لنا أن الخللَ فيمن افتُرضوا قدوةً ومُنحوا قوةً ثم أسلموا كلماتهم ولقطاتهم لرياح الهوى والغِوى واللجاج والارتجاج، وصاروا مكرورين مملين وحولهم الغوغاء والضوضاء، ومن يُهمه يومُه وغدُه فلن يملَّ التفتيش في الخبايا ولن يسأم السكن في الزوايا، وربما وجد فيها من الصفاء والنقاء ما يعيش بألقه ولا يعشى بغسقه.
(3)
** الحكمةُ وسمٌ لا توسم.