د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الأحاديث الجانبية كثيرًا ما تضيف للمرء جديدًا لم يقرأه في كتاب، ولم يسمعه من ذوي الألباب، وبعضه يتفق مع ما في الذهن، وبعضه تراه خفيفًا كالعهن، وآخر تحتار في فهمه وتبحث عن مدلولاته، لا سيما إذا ما كان المتحدث على دراية بالعلوم البحتة، فاستدلال لديه يكون مباشرًا ومحيرًا في بعض الأحيان.
كان بجانبي في أحد اللقاءات الرسمية وقبل بدء الفعالية سيدة كريمة تحمل درجة الدكتوراه في أحد فروع العلوم البحتة، وفي فترة انتظار كان هناك تجاذب للحديث حول النفس البشرية، والقيم الإِنسانية ومدلولاتها، وأهميتها في المجتمعات بغض النظر عن الموروث الثقافي لأي مجتمع من المجتمعات، والتباين السائد في بعض المفاهيم، حتى وإن كانت المنطلقات واحدة، فالناس جميعًا في هذا الكون يتفقون على مقت الكذب، والرياء، وعدم بر الوالدين، وغيرها كثير، كما أنهم يتفقون على العطف على الصغير، وتوقير الكبير، ورحمة الضعفاء، ومساعدة المحتاجين وغيرها.
الكثير من المفاهيم يتفق عليها بني البشر، لكنهم قد يختلفون اختلافات فردية فيما بينهم، وكذلك اختلافات بين المجتمعات نفسها، طبقًا لتراكم المفاهيم عبر آلاف السنين، والحق أن رسل الهدى الذين بعثهم الله رحمة للعالمين قد نفضوا الغبار المتراكم عبر السنين، الذي كاد أن يخفي الفطرة الإِنسانية السليمة.
ثم جاء الدين الإسلامي الحنيف ونزل القرآن الكريم على خاتم الأنبياء ليضع قاعدة للعبارات والمعاملات صالحة لكل زمان ومكان على وجه البسيطة.
ومما تضمنه الحديث، معلومة مهمة جدًا تتعلق بالعمارة الأندلسية، وهي أن الأندلسيين حاولوا جاهدين أن يستوحون في عمارتهم ما قرؤه أو سمعوه عن جنات عدن وصفاتها، وأنهارها وأشجارها، وقصورها، وجواريها وولدانها، ولهذا نجد أن عبدالرحمن الداخل قد بنى على جانبي قصره المنيف في قرطبة مبنيين أحدهما للمكيات والآخر للمدينيات، وهن وصيفات قد جلبهن من مكة والمدينة بعد أن استقر حكمه، وثبت سلطانه، وبنى مسجد قرطبة المشهور والبالغة مساحته أربعة وعشرين ألفًا وثلاثمائة متر مربع، بما في ذلك فناؤه الفسيح، الذي يعرف اليوم بفناء النارنيج أو البرتقال، ومن معالمه النوافير والأشجار، ولهذا فإن فن العمارة آنذاك لا يخلو من الماء والأشجار، والإطلالة عن المناظر الخلابة، وتحيط به الأزهار، حتى أن أحد أسماء أبوابه البالغ عددها تسعة عشرة اسمه «باب الغفران» وجميعها تؤدي إلى الفناء الفسيح الذي يكاد يساوي في مساحته ثلث مساحة المسجد، وفي فناء النارنيج أو البرتقال هذا عدد من النوافير، وقد غرست في جنباته ووسطه أشجار البرتقال، وأصبح هذا سائدًا على مر الدهور في العصر الأموي الأندلسي وما يليه، سواء في قرطبة أو أشبيلية أو غيرهما من سائر المدن الأندلسية العتيقة، ويلاحظ أن النهر يخترقه ليمثل الجنان، والأنهار، والأشجار والزخارف.
وعند زيارة السفير الغساني أحد السفراء المغاربة في عصر مولاي إسماعيل سلطان المغرب ذلك المسجد، وكذلك السفير الغزال الفاسي سفير سلطان المغرب أبي عبدالله المنصور بالله، وجد نقوشًا على عقد بابه الغربي مؤرخًا بتاريخ تجديده في عصر الأمير محمد بن عبدالرحمن بن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل عام 241 هجرية، وتلتها نقوش أخرى لمن جاء من الأمراء والخلفاء من بني أمية الأندلسيين، ومن أهمها تلك النقشة على لوحة رخمية في عصر عبدالرحمن الناصر أعظم حكام بني أمية في الأندلس، وهو الذي تسمى بالخليفة في النصف الثاني من ولايته التي استمرت خمسين عامًا، ونصها «بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبدالرحمن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، أطال الله بقاءه، ببنيان هذا الوجه وإحكام ‘تقانه، تعظيمًا لشعائر الله، ومحافظة على حرمة بيوته، التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، ولما دعاه على ذلك من تقبل عظيم الأجر، وجزيل الذخر، مع بقاء شرف الأثر، وحسن الذكر. فتم ذلك بعون الله. في شهر ذي الحجة سنة ست وأربعين وثلاثمائه، على يد مولاه ووزيره، وصاحب مبانيه، عبدالله بن بدر، عمل سعيد بن أيوب» ما يهمنا في ذلك هو الربط بين الخيال المعماري للمصمم المنطلق من موروثه الديني، ووضعه على أرض الواقع بقدرته البشرية المحدودة.
الفائدة الثانية من الحديث الجانبي الذي قد يتوقف الإنسان حوله مليًا، هو ما ورد في إحدى الروايات أن الإنسان العربي يكاد أن يضحي بنفسه في سبيل إنسان قد يغرق، أو يصيبه سوء، لكنه هو ذاته الإِنسان، قد يصيبك بمكروه لو رأى نجاحك في أي مجال من مجالات الحياة، والحقيقة أنها جملة قليلة لكنها عميقة المعنى، تستحق البحث من علماء النفس والاجتماع، لإيضاح حقيقتها أولاً، ومن ثم البحث في أسبابها وارتباطها بالبيئة والموروث الثقافي المتراكم عبر آلاف السنين، إنهما معلومتان جديدتان بالنسبة لي تستحقان التأمل والدراسة.