القصيم - خاص بـ«الجزيرة»:
أكّد فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد الطيّار مفتي منطقة القصيم أنّ منهج السلف يتميّز بقدرته على مواجهة القضايا الفكرية، و«النوازل» الفقهية بمنهجية إسلامية ملتزمة بالثوابت الإسلامية ومتحرّرة من قيود التقليد التي أدّت إلى الجمود.
الدكتور عبد الله الطيار في أول حوار عقب تعيينه مفتياً لمنطقة القصيم له قرابة 100 مؤلف ما بين كتاب مطبوع وأبحاث ودراسات شرعية متنوعة، وإسهامات علمية وعملية في العمل الإسلامي.
وقد تناول د. الطيار في حواره مع «الجزيرة» في الجزء الأول منه عن قضايا السلفية، والفتوى، مشيراً إلى أنّ السلفيين هم أهل السنة والجماعة وهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وأنّ هناك كثيرون ينسبون أنفسهم إليها وهم يدعون إلى حزبهم وجماعتهم، مع أنّ هناك فهما خاطئا حول السلفية، مشدّداً على أنه لا يجوز أن تكون الفتوى المتعددة والمتناقضة أداة للفتنة والاختلاف.. وفيما يلي نصّ الحوار:
* يكثر الكلام بين الفينة والأخرى حول السلفية، فما تصوركم لمفهوم السلفية؟
- السلفية: نسبة إلى السلف، والسلف: هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - وأئمة الهدى من أهل القرون الثلاثة الأولى - رضي الله عنهم - الذين شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- بالخير في قوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم، والسلفيون : جمع سَلفي نسبة إلى السلف، وقد تقدم معناه، وهم الذين ساروا على منهاج السلف من أتباع الكتاب والسنة والدعوة إليهما والعمل بهما، فكانوا بذلك أهل السنة والجماعة وهم الطائفة المنصورة، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق وهم أهل الاستقامة كما وردت بذلك الآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلَّم-. فهذه الأسماء كلها شيءٌ واحد تعود لمسمىً واحد.
وبعض الناس يفرق فيقول: الطائفة المنصورة غير أهل السنة والجماعة. نقول لا بل أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة وهم أهل الحق، وهم الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلَّم-: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى»، فكل من لزم السنة فهو من أهل السنة والجماعة ويقال إنه من السلف؛ لأنه تابع للسلف الصالح، ولو كان متأخراً.
وقد يكون من أهل السنة والجماعة حداد أو نجار أو خباز أو خراز أو بناء أو مبلط، أو تاجر، أو دهان، إذا كان مستقيمًا على طاعة الله ومتبعاً رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- فهو من أهل السنة والجماعة، لكن في مقدمتهم العلماء.
والطائفة المنصورة قد تكون في مكان واحد وقد تكون في أمكنة متعددة، وتقوى وتكثر في بعض الأزمنة وتقل، لكن هذه بشارة من النبي -صلى الله عليه وسلَّم- قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
* وماذا عن دور السلف الصالح في خدمة العقيدة الإسلامية؟
- لا شك أن دور السلف الصالح في خدمة العقيدة الإسلامية واضح وبين -ولله الحمد- فلقد كانت المدرسة السلفية قديماً وحديثاً لها اليد الطولى والقدح المعلى في خدمة العقيدة الإسلامية وفي الحركة التعليمية الصحيحة على مدار الأعوام السالفة، لذلك نقول بانه لا ريب أن المدرسة السلفية هي المدرسة الأصيلة الجديرة بأن تكون النموذج الأسمى في الفهم والاجتهاد والتأصيل، والابتعاد عن الانحرافات في مجال التأويل سواء في قضايا العقيدة أو في مجال المناهج الفقهية.
وقد ألّف علماء السلف في بيان عقيدتهم وإيضاحها والرد على المخالفين، المؤلفات الكثيرة مدعومة بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهي من الكثرة بحيث لا يكاد أحد يستطيع حصرها.
ومن أجل علماء السلف ومؤلفيهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله- وله مؤلفات في بيان عقيدة السلف والذب عنها، منها ما دونه بنفسه ومنها ما دونه تلامذته في مؤلفاتهم. ومن ذلك مثلا كتاب (السنة)، (الإيمان)، (الرد على الزنادقة)، (فضائل الصحابة).
ومنهم الإمام البخاري -رحمه الله- وقد أودع في (صحيحه) كثيراً من بيان عقيدة السلف وكذا كتابه (خلق أفعال العباد) و(الأدب المفرد) ومنهم الإمام مسلم -رحمه الله- وقد أودع في (صحيحه) أيضاً كثيراً من أبواب العقيدة، ومنهم: ابن ماجه في (سننه). وأبو بكر بن الأثرم في كتابه (السنة).
وعبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية). وعثمان بن سعيد الدارمي في كتابه (الرد على الجهمية) وكتابه (الرد على بشر المريسي). وابن أبي عاصم في كتابه (السنة).
عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه (السنة). واللالكائي في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وشيخ الإسلام ابن تيمية صاحب الباع الطويل في بيان عقيدة السلف وكتبه كثيرة مشهورة. ومنهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأهم مؤلفاته كتاب (التوحيد) المتداول بين طلبة العلم وكتاب (كشف الشبهات) وغيرهما من الرسائل التي كتبها وكذا الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي -رحمه الله-.
وفي عصرنا الحاضر كتب كثير من الفضلاء في بيان السنة والرد على المخالفين مثل شيخنا عبد العزيز بن باز، وشيخنا ابن عثيمين، والشيخ الألباني -رحمهم الله- وما ذكر سابقاً فإنما هو من باب التمثيل، إِذْ إن حصر كتب السلف يكاد أن يكون مستحيلاً، وهذا بلا شك قد أسهم في الحفاظ على هذه العقيدة وأبقاها على أصلها.
* إذا كان هذا هو مفهوم السلفية كما وضحتم فهل يمكن أن يقال إن السلفية هي حزب كالأحزاب الموجودة حالياً؟
- لا يمكن أن يقال ذلك لأن السلفية من أهم أصولها التي قامت عليها هو نبذ الفرقة والاختلاف والتحزب إلى جماعات وفرق شتى، فأنا قلت السلفية لكن على وجه لا يكون فيه تحزب، ولذلك لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلَّم - وحصل ما حصل بين الصحابة وأراد كل منهم أن ينتصر لحزبه فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - فقال: ما بال دعوى الجاهلية (دعوها فإنها منتنة). وللأسف هناك الكثير ممن ينسب نفسه إلى السلفية ويدعي أنه من أهلها وهو في الحقيقة يدعوا إلى حزبه أو إلى جماعة ينتسب إليها:
وكلٌ يدعي وصلا بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاك
كله يقول إنه على حق، بعض الناس يقول: أنا من السلفية أنا سلفي وما هو بسلفي، يدعي هذا، وبعض الناس يقول أنا كذا أنا من الفرقة الفلانية وهي على الحق، نقول لهؤلاء عندنا ميزان، وهو ميزان أتباع الكتاب والسنة، من كان متبعًا للكتاب والسنة فهو على الحق، والأسماء لا تقدم ولا تؤخر، المهم الحقائق. الانحراف العقدي.
* وهنا سؤال قد يتبادر إلى الذهن وهو إذا كانت المدرسة السلفية بهذا الشكل الذي ذكرتموه وذلك بأنها لم تتغير ولم تتبدل بل يخلف بعضهم بعضا على هذه العقيدة، فهل يعني ذلك أنها مدرسة متحجرة لا تقبل التطور ومواكبة العصر الحديث؟
- نقول السلفية لا تعني الجمود كما يزعم بعض الناس أن الدعوة إلى منهاج السلف الصالح ما هو إلا نوع نكوص إلى الماضي، وخروج من الواقع الصعب الذي تعيشه الأمة الإسلامية، فيأتي بعض هؤلاء ليقول: إن هؤلاء الذين يدعون إلى منهاج السلف الصالح يريدوننا أن نعود إلى القرون الماضية، ويريدون منا أن نتخلى عن حياتنا المعاصرة. وهذا بلا شك فهم خاطئ فإنَّ المطالبة بالعودة إلى منهاج السلف الصالح إنما هو عودة إلى تأصيل المنهج العقدي للأمة، وهذا لا خيار فيه لها، فالرسول - صلى الله عليه وسلَّم - أمر بأتباع سلف الأمة، وقبل ذلك أمر الله بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلَّم-، والرسول يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، وهذا الأمر بالتزام سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ليس نكوصاً إلى الماضي، وإنما هو عودة إلى ثوابت وأصول وجذور هذا الدين وهذه العقيدة التي لا تتغير مهما اختلف الزمان والمكان، وهذه هي الدعوة إلى منهاج السلف الصالح.
إذاً الدعوة إلى منهاج السلف الصالح تقوم على الدعوة إلى تلك الأصول الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فعندما ندعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له إنما ندعو إلى منهج لا يتغير مهما اختلفت الظروف والأحوال، فالذي يطير في الطائرة أو في الصاروخ يجوب الفضاء أو يتعامل مع أدق الإلكترونيات والمخترعات العلمية وغيرها هذا هو نفسه مثل ذاك الذي يحلب الإبل ويشرب من ألبانها ويركبها، فالعبادة لله وحده لا شريك له لا تتغير مهما تغيرت الظروف والأحوال، فالدعوة إلى منهاج السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- ليست دعوةً إلى أن نرجع إلى الماضي، وإنما هي دعوة تأصيلية لأن تكون تلك الثوابت العقدية والتشريعية وغيرها كما عاش بها سلفنا الصالح نعيش بها نحن أيضاً، ومن ثم فإنَّ التقدم الحضاري المادي مطلوب بشرط أن يضبط وأن لا يتعارض مع تلك الثوابت، وهذا الذي فعله المسلمون من خلال تعاملهم مع مستجدات عصورهم لما اتسعت فتوحاتهم في مشارق الأرض ومغاربها.
وعندما يراد بالسلفية أن تكون أداة للجمود فمن الطبيعي أن تكون السلفية نقيضا للتطور، والجمود دليل على ضيق الأفق، ومنهج السلف يتميز بقدرته على مواجهة القضايا الفكرية و»النوازل» الفقهية بمنهجية إسلامية ملتزمة بالثوابت الإسلامية ومتحررة من قيود التقليد التي أدت إلى الجمود.
والسلفية الحقيقية تعطي للاجتهاد مكانته وتحترم كل اجتهاد يدعمه الدليل ويتفق مع مقاصد الشريعة. وإننا نحتاج اليوم إلى سلفية حقيقة، واعية ومتفتحة، تنطلق من منطلق الشريعة وتراعي المصالح المعتبرة التي جاءت الشريعة لإقرارها وتنظيمها، سلفية أصيلة، تقوم بدور التصحيح لكل انحراف، وتشجع الرأي والاجتهاد الأصيل.
* هناك دعوة للتعاون بين القائمين بالإفتاء من علماء وهيئات ولجان على مستوى العالم من أجل توحيد الفتاوى، فهل ترى أن هذا يمثل حلاً لتضارب الفتاوى وجرأة الجهلاء في العالم الإسلامي؟
- أقول أولاً إن باب الاجتهاد الفقهي لم يسد بفضل الله تعالى، بل هو مفتوح لكل من أراد ذلك خصوصاً فيما ظهر من المسائل المتأخرة التي تحتاج الأمة إلى بيان حكمها، ولكن لا بُدَّ من الوقوف أولاً على النصوص الشرعية في جميع أحوالنا، فإذا عدمت الأدلة التي تدل على هذه المسائل، اجتهد الفقيه في إيجاد الحل المناسب لها.
ثانياً: إنني أرى حكر باب الاجتهاد على المجامع والهيئات واللجان الدائمة للفتوى ودوائر الفتوى؛ خصوصاً في هذا الوقت الذي قلَّ فيه أصحاب العلم الرباني الصحيح، وحتى لا يكون الباب مفتوحاً لمن لا علم له ولا تقوى لتوجيه الناس توجيهاً غير سليم، ولأن المجامع الفقهية مرجعها إلى علماء أفاضل موثوقين، معروفين بعلمهم، خصوصاً مع تغير الفتوى، وتغير أحوال الناس وأمورهم، وضعف الإيمان عندهم، فوجود مجامع فقهية ترد على فتاوى الناس، ويكون الاجتهاد صادراً عنهم فيه فائدة عظيمة للأمة لتوحيد الجهود في إيصال الحق للناس، والناظر في المسائل المتأخرة المعروضة على الساحة يجد أنها تحتاج لعلم وجهد واستنباط، وهذا لن يتأتى إلا باتحاد العمل من أجل تحصيل الإجابة الصحيحة التي تنفع الأمة، وهذا لن يتم إلا بوجود التعاون على إجابة هذه المسائل.
والفتوى الفردية قد تؤدي إلى تصادم الفتاوى لأن اجتهادات العلماء ليست واحدة، ومن حق أي عالم أو فقيه أن يبدي رأيه وأن يعبر عن اجتهاده كما يراه، إلا أنه لا يجوز أن تكون الفتوى المتعددة والمتناقضة أداة للفتنة والاختلاف، وبخاصة عندما يتدخل الإعلام لإثارة الرأي العام مما يؤدي إلى إضعاف هيبة العلم والعلماء والتشكيك في نزاهة المؤسسات الإسلامية المختصة بالفتوى، فالقضايا الاجتهادية يجب الاحتكام فيها إلى الفتوى الجماعية.
وعلى الرغم من كلامي هذا وحرصي عليه، إلا أنه إذا وجد من يكون مؤهلاً للاجتهاد، وله منفعة ظاهرة تعود على الأمة فله الحق في المشاركة في إيجاد الحلول الشرعية لما يطرأ على الأمة من مسائل مستحدثة.
فالحاصل إنني أدعو إلى الفتوى الجماعية التي تصدر عن الهيئة العلمية المختصة بالفتوى، وبخاصة في القضايا الاجتهادية التي وقع الاختلاف فيها بين العلماء والفقهاء. ولا بد من تنظيم مؤسسات الفتوى لكي تؤدي دورها الشرعي، ويجب أن تدرس كل نازلة من النوازل بكل موضوعية، وأن تصدر الفتوى الجماعية من هيئة مختصة.
* نسمع كثيراً عن فقه الواقع فهل غاب فقه الواقع عن مناهج صناعة العلماء وطلاب العلم؟
- أقول لا؛ ولا يمكن له أبداً أن يغيب، وكيف يكون ذلك والعلماء وطلبة العلم هم الذين يقومون على إيجاد الحلول المناسبة التي تطرأ على الأمة من أمور جديدة مستحدثة تحتاج إلى توجيه وإرشاد، والبرهان على ذلك هو وجود مجمعات فقهية لا تمر مسألة من مسائل الأمة المهمَّة عليها إلا وقد وجد لها الحل المناسب، وهذا يدل على عدم غياب فقه الواقع عن العلماء وطلبة العلم، ولو نظرنا إلى كثير من الفتاوى المتأخرة لوجدناها تعالج الكثير من النوازل والقضايا المستحدثة، وهذا لم يتم إلا بفضل الله تعالى، ثم بالجهد المبذول من قبل العلماء وطلبة العلم.