محمد آل الشيخ
أتذكر عبارة سبق أن قرأتها لأبي حامد الغزالي تقول: (لا يسارع إلى التكفير إلا جاهل). ورسخت هذه العبارة المختصرة المعبرة في ذاكرتي منذ أن قرأتها، وما إن أقرأ أو أسمع حُكما تكفيريا متعجلا، حتى أتذكرها، وحينما أسمع تأصيل هذا المُكفر، وسياقات حكمه، واستدلالاته، وكيف وصل إلى هذا الحكم الخطير، أجد أن ما قاله أبوحامد - رحمه الله - صحيحا ودقيقا.
ومن يقرأ ويتعمق في التراث الفقهي الموروث، يجد أن المسلمين كلما انتشرت فيهم الفتن والتنازع والاضطرابات السياسية، كلما كان الاتهام بالتكفير والردة والإخراج عن الملة شائعا ومنتشرا.
وخطورة التكفير أنه يبرر الحروب والقتل والتمرد على الحاكم السياسي, لذلك يلجأ إليه أصحاب الطموحات والثورات السياسية لاستقطاب الأتباع والتحرر من بيعة الحكم القائم.
لذلك فإن الخوارج الأوائل عندما خرجوا على صاحب البيعة، برروا ثورتهم السياسية بشعار (لا حكم إلا لله)، وبرروا موقفهم مع من اختلفوا معه سياسيا، وليس دينيا، تبريرا دينيا انتهازيا، التبرير والشعار نفسه استخدمه سلفهم الخوارج الجدد وأعني بهم (جماعة الإخوان المتأسلمين)، وماتفرع عنهم من سروريين، وحركات ثورية متأسلمة مسيسة، وكان التكفير - أيضا - هو التهمة والمبرر الرئيس؛ وغني عن القول ما انتهت إليه هذه الحركات التكفيرية المسماة جميعها بالصحوة، من مآسي وفتن ودمار ودماء وخراب على جميع المستويات؛ بل يمكن القول إن ظاهرة الإلحاد التي انتشرت مؤخرا في المجتمعات العربية المعاصرة، كان من أهم بواعثها ما رآه الأفراد من مآلات دموية، وهتك للأمن والاستقرار، يرتكبها الطرفان المتنازعان باسم الدين، فالقاتل حين يقتل يصيح (الله أكبر)، والمقتول يصيح وهو يدافع عن نفسه (الله أكبر)، وهذا يرفع شعارات دينية تبريرية، والآخر يرفع في المقابل مبررات لما يقول، استقاها من قول هذا العالم أو ذاك الفقيه، وهكذا دواليك.
ويجب أن نعترف - كما كنت أقول وما أزال - أن ما عايشناه في العقود الثلاثة الماضية من قتل وثورات دموية متأسلمة كانت مبرراتها وتأصيلاتها مستقاة من التراث الموروث وليست مؤامرة كما يزعم البسطاء والسذج أتت من خارج بيئتنا الثقافية، وأغلب هذا التراث اجتهادات إنسانية وتأويلات لنصوص ربانية، ليس بالضرورة أنها هي الاحتمال الوحيد لهذه الآية، أو هذا الحديث.
والنقطة الثانية والجوهرية في ما ورثناه من كم هائل من الفتاوى والاجتهادات والمواقف والمقولات الفقهية، أن هناك في الإسلام ثوابت تخترق الزمان والمكان، وهي ما اصطلح الفقهاء على تسميته (بأركان الإسلام)، وهناك متغيرات وهي كل ما يتعلق بحياة الإنسان في دنياه وليس دينه، فهذه ليست ثوابت في كل زمان ومكان، وإنما تدور مع مصالح الفرد والمجتمع حيث دارت، وبالتالي فليس بالضرورة أن ما كان صالحا في عصر مضى وانتهى يكون صالحا بالضرورة للتطبيق الآن، فالمعول عليه هنا وهناك تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
لذلك يقول ابن القيم مقولة ذهبية قاعدية في أعلام الموقعين مؤداها (حيثما تكون المصلحة يكون حكم الله)، وكذلك المقولة التأصيلية المتداولة عند استنباط حكم شرعي والتي تقول (الأحكام تدور بعللها وجودا وعدما)، أي متى ما وجدت علة التحريم وجد الحكم بالحرمة وإلا فالأصل في الأمور الإباحة.
وأنا ممن استبشروا بمركز (اعتدال) الذي افتتحه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وضيفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عند زيارته للرياض، فهذا المركز إذا استطاع أن يضطلع بمهماته لرصد ظاهرة التطرف، المفضي للإرهاب، واستطاع أن يرصد مظاهر التطرف بالتراث الموروث، والعمل على تحديدها وتصحيحها في محاضن التعليم ونشرها إعلاميا، فنحن فعلا لا قولا نضع أقدامنا على أول الطريق الصحيح.
إلى اللقاء