د. جاسر الحربش
بما أن الأطلال تسمع وترد في المخيلة الشعرية العربية، فلا بد أنها كذلك تشتاق وتحنو على من تحب وتلعن من يسعى في أو يسكت على تدميرها.
الموصل هي نينوى الآشورية اشتقاقاً من اسم إله الخصوبة الآشورية نينا، وهي عربايا نسبة إلى العرب العاربة الذين هاجروا إليها منذ ستة قرون قبل الميلاد، وهي الحدباء بالاشتقاق من إحديدابها في الجهة الشمالية عند التفاف نهر دجلة، وهي كل اسم سماها به من مر عليها من الممالك والحضارات.
أطول الأسماء عمراً حملته هو اسمها العربي الموصل، لأنها على الطريق الذي يصل بين نواحي الفرات في الشرق ونواحي دجلة في الغرب. الموصل تمثل للعراق ما بقي له منذ القدم من شواهد على إمكانات تعايش الأعراق والديانات والمذاهب، وكان هذا حتى الأسبوع الفائت.
حاول الصفويون عام 1732م احتلالها بثلاث مائة ألف محارب فارسي فقهرتهم وأبادت أكثرهم.
هذه المرة دخلها الصفويون بأعلامهم الإيرانية لكنها ترفرف جنباً إلى جنب مع العلم العراقي ورايات حركية مذهبية خضراء وسوداء، ولا بد أن العلم الأمريكي كان في الخلفية في مكان ما، وكانت صيحات الله أكبر يا علي ويا حسين تجلجل بين الأطلال والخرائب.
لم يكن بين الأصوات صوت واحد يردد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ولا صوت مسيحي كلداني عراقي يرفع الصليب ليمجد السيد المسيح.
العرب السنة والمسيحيون من سكان الموصل لم يحضروا ضمن المحتفلين بتدمير مدينتهم، فقد كانوا إما تحت الأنقاض جثثاً بعشرات الآلاف أو يصطفون عراة حفاة في مخيمات الصليب الأحمر في الصحاري المجاورة.
كان احتفالاً فارسياً أمريكياً عراقياً شيعياً بالانتصار على مليون ونصف مليون موصلي من العرب والتركمان والكلدان والكرد والشبك والإيزيديين الذين تعايشوا في الموصل لمئات السنين.
في الوقت الحاضر لن يستطيع أحد أن يتجرأ للتحقيق فيما جرى، لكن الأجيال القادمة سوف تقرأ في التاريخ أن تدمير الموصل كان هدفه مسح أكبر تجمع ذي أغلبية عربية سنية وتشتيت سكانه لتغيير التركيبة السكانية.
لأطلال الموصل الآن ألف فم وفم، تلعن بها الجميع وتصيح: أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم، وأن ديات الدماء دم؟.