د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تلبيس إبليس ممارسة موغلة القدم في التاريخ البشري، وهي بمصطلح حديث التوسل بما هو مقدس لتحقيق ما هو غير مقدس، أو في أسوأ الظروف مدنس. عرفت أوروبا، مثلاً، حروباً دينيةً استمرت لقرون كانت الكنائس فيها تحث الإقطاعيين على بيع إقطاعياتهم للجهاد من أجل المسيح ثم ترسل من يشتريها في الخفاء. وما أن وضعت الحرب أوزارها سيطرت الكنيسة على أوروبا ليس دينياً فقط بل واقتصادياً أيضاً. وفي أمريكا اللاتينية انقسمت الكنيسة لعقود بين تحالفين أحدهما مع الشيوعيين والآخر مع تجار المخدرات.
ويعجب المرء في منطقتنا من أنه بالرغم من كل العوامل المشتركة بين الدول والشعوب العربية: مصالح سياسية واقتصادية، وجغرافية، وتاريخية مصيرية إلا أنها اليوم في قمة التمزق بسبب الصراعات المذهبية والدينية. وشمل الانقسام والحرب أيضاً شعوباً لنا معها قواسم إسلامية مشتركة كالشعب الإيراني، وشعوباً حاربنا معها كالأفغان.. وتجاوز وضع الأمة إثارة الاستغراب لاستحضار الذهول، فمن المستحيل أن تستند هذه الانقسامات على عقل أو منطق غير ما تم توارثه من خرافات.. أمة لا ترى إلا ما يفرقها، وما يجمعها هو العنف فقط.. والأحرى بأمة كهذه أن تنظر في المسار التاريخي الذي أودى بها لما هي فيه وأخذ العبرة من ذلك.
حروبنا الدينية الحديثة لا سابقة لها في التاريخ فهي تجيز التحالف مع الذمي ضد الملحد، باعتبار المحتل الذمي لمقدساWت المسلمين أهون شراً من الملحد المحتل لبلاد ما وراء نهر «جيحون». وهي ترى الجهاد المذهبي الإسلامي أوجب من الجهاد الديني المتوارث ضد غير المسلم، بل إنها تستحسن التحالف الديني مع غير المسلم من أجل الانتصار المذهبي.. النفير للجهاد المذهبي لبّس إبليس لبوسًا اسطوريةً، واستلهم كل النصوص الطائفية التي مزقت أمتنا طيلة تاريخها الطويل في فترة وجيزة متسارعة. وتم تجاهل كافة الظروف السياسية، والجغرافية، والعسكرية للحرب ونسب كل انتصار لمدد من السماء، ولخوارق وكرامات توظف عادة في مثل هذا الأجواء لاستدراج البسطاء. وُظف الدين والمذهب لتزييف وعي المسلم البسيط بأن الله أوجب عليه جهاد أخيه المسلم لنصرة الله، في حرب ظاهرها مقدس وواقعها سياسي مدنس. حرب حدها المتخيل الانتصار الرباني الأبدي في الأرض الذي لا وجود له في الواقع، حري تُعرف بدايتها ويُجهل تمامًا شروط انتهائها. أما للقيادات فالاقتتال الرباني الذي يجمع المجاهدين المغرر بهم لا يلبث أن يتحول لاختلافات جذرية حول واقع مكاسب الحرب ومطامعها الدنيوية المتمثلة في النفوذ والمال حيث تتبين الصورة المتوارية لإبليس ومعها مختلف الاستخبارات العالمية عبر عملاء في هيئة مجاهدين أو علماء دين.
ما يعقّد الصراعات في منطقتنا اليوم إلى حد يتجاوز الفهم أنها بنيت على اختلافات غيبية ونصوصية لا يمكن التحقق منها علمياً، أو عملياً، أو منطقيا. استند بعضها إلى نصوص تاريخية تقدسها دول ومذاهب بينما تعتبرها دول أخرى نصوصاً ميثولوجية مختلقة لا أساس لها. والمؤلم أن البعض جند هذه النصوص في مرحلة ما لصراعات سياسية حقيقية ثم لم يستطع احتواءها فيما بعد، لأن الحركات التي جُندت ووُضعت على طريق الجهاد لنصرة الإله في مرحلة ما صدقتها حرفياً، ولم تستطع هي نفسها التحقق من استكمال أهدافها لأنها كما تدّعي أهداف ربانية تتجاوز الواقع الدنيوي.
أدرك المسلمون في سابق عهدهم الجهادي أهدافهم الجهادية دنيوياً وحددوها قبل نفير الجهاد، ووضعوا حدوداً وتصورات دنيوية سياسية قابلة للتحقيق في نزاعاتهم مع غيرهم، وراعوا حسن الجوار والتعامل الملائكي بتسامح ومثالية مع الشعوب التي سيطروا عليها أو تلك التي جاورتهم. وكانوا على قلب رجل واحد، ولم يكن لاستخبارات «الفرنجة» أن تخترقهم.
اليوم تغير الحال وأصبح الجهاد للقتل والإيذاء لأناس أبرياء عزل هم في غالبيتهم مسلمون من مذهب آخر أو معاهدين أبرياء.
قال رسول الله عليه أفضل السلام: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف... والمقصود هنا كما يبدو ليس المؤمن القوي بدنياً أو مالياً بل المؤمن القوي فكراً وإيماناً وأخلاقاً، مؤمن يعي دوره الحقيقي في الدنيا قبل الآخرة. فإبليس يتوسل للبشر في أعز الأشياء بالنسبة لهم وفي أقرب الأمور لهم، ولا يغويهم بهيئته الشيطانية بل يتوسل لهم بهيئة إيمانية تسهّل خداعهم، هيئة رجل دين يفتي بقتل الأحياء إحياءً للأموات، ويوظف الكرامات لارتكاب المدنسات.
ما نحتاجه اليوم هو إغلاق الأبواب أمام إبليس بإعمال العقل والمنطق، والتأكيد على كرامة الإنسان في حياته على الأرض دون التدخل في مصيره عند ربه في السماء، فإلى الله الإياب وعليه الحساب.