د.فوزية أبو خالد
هاتفني د. سعود القرني لحضور سوق عكاظ الشعري بمدينة الطائف فرحبت رغم اعتذاري للسنوات الماضية بسبب ارتباطي بجدول دراسي وأسري أتداوى به أثناء إجازة الجامعة الصيفية من أي لحظة فراغ قد تسلمني لقمة سائغة لحرائق غابة السياسة والاحتراب التي تحيق بمنطقتنا بجنون غير مسبوق منذو 2001 واحتدمات 2011 إلى اللحظة.
أما الطُعم الطازج لمجيئي إلى هنا فقد كان فوز الشاعر الشاب محمد التركي وزملائه الذين وجدت في مغامراتهم الشجاعة رمزاً لتحالف الشعر مع المستقبل ولشهوة الشباب في اختطاف شعلة الشعر نحو مجاهل جديدة غير هيابين من السير أو التحليق على تلك الدروب التي هلك عليها ودونها وتعمد بوهجها كل من تجرء على التمرد من أجيال الشعر الحديث بالمملكة العربية السعودية منذ السبعينات تمرداً رهيفاً أو غائراً. كان ذلك في الحقيقة محرضاً إضافياً واضحاً لمحرضي الآخر المبهم لأحضر إلى هنا، رغم مايبدو غير مبشر إلى الآن من العقبات اللوجستية.
على أن العقدة الأصعب أنه في الوقت الذي يطلب مني أن أقدم في سوق عكاظ بحمولته التراثية شهادة شعرية عما مضى من عمر تجربتي الشعرية المعمر والذي جاوز الأربعين بجروحها الاجتماعية والسياسية وبتباريحها الإبداعية، كنت بخفة بنت في الرابعة عشرة يوم صدر ديواني الأول (إلى متى يختطفونك ليلة العرس) أحيا منذ صدور (الجزء الأول من مجموعاتي الشعرية الكاملة عام 2014) تحدياً ذاتياً وموضوعياً في السؤال الشعري لما بعد الحداثة من ناحية وفي السؤال الذي لم يعد سؤالاً سياسياً وحسب بل أصبح سؤال وجودياً وضميريا لمابعد إنخطاف الربيع العربي وحريق العالم العربي الذي كنا نعرف.
وربما على إيقاع ذلك السؤال المركب كتبت الديوانين الأخيرين/ ديوان (ملمس الرائحة) وديوان (مابين الماء وبيني) كمحاولة حارقة وإن بدت مرهفة أو ضالة للبحث في السؤالين سؤال التجدد الإبداعي وسؤال التحولات الاجتماعية والسياسية وخاصة في ظل الثورة التكنولوجية الكونية. والحقيقة أن حرقة الأسئلة المحرجة عن الآتي تضنيني اليوم عن الإنشغال بشجن الذاكرة وفتح دفاتر التباريح إلا بالقدر الذي قد تمدني بعض محطاتها بإرادة الاستمرار وبشغف مواصلة البحث في الأسئلة. وهذا ما جعل المتوقع المعهود للشهادات الشعرية باعتبارها حديثاً عن التجربة كفعل ماض «بفشله وأجنحته» اجتماعياً و»بملاحقاته وتهميشه» سياسياً و»بآثامه وجموحه» إبداعياً و»بجروحه ومداواتها» ذاتياً, يجفلني و يشكل محرضاً معاكساً لما ذكرت سابقاً.. بما جعلني أندم وأشعر وكأن جذلي بوجود أفواج جديدة من الشعراء جعلني أستعجل الموافقة على الحضور ومن ثم أورط نفسي في شهادة شعرية عن الماضي بينما نياط قلبي وقلمي ولوح مفاتيحي متعلقة أمامي وخلف ظهري بأسئلة حاضر مبرح ومستقبل غامض.
أما وقد علمت أن صاحب الحريات التي لاتحد في اجتراح قصيدة الوطن وقصيدة التفعيلة منذ كان طالباً بجامعة البترول بالمنطقة الشرقية ومؤسس المربد الثقافي بجريدة اليوم في رحاب نهاية السبعينات ومجلة النص الجديد في اختناقات مرحلة التسعينات الشاعر علي الدميني بما له من دالة لا ترد على مدمني حب الأرض من قمم السروات إلى قاع الصمان سيكون شريك المنصة مع الزميل سفير السعودية الثقافي في المحافل العربية الشاعر أحمد قران بالإضافة للحضور الشبابي المتوقع، فلم يعد بد من التعايش مع توتر موعدي مع الشعر بسوق عكاظ بما يرمز إليه من تعدد الأجيال والتجارب، من عروش قصائد المعلقات للشعر العامودي العريق إلى بروق قصائد الومضة الخاطفة لنزق قصيدة النثر ومابعد قصيدة النثر إن جاز التعبير. كما لم يعد من مجال للتراجع عن موعد لن أخوض غماره وحدي لا في الشهادة على مواجع مامضى ولا في القلق من تحديات ماهو آت.
رميت شرارة من قلقي في دورتي الدموية وقطرت بالمقابل نقطة ندى واحدة من فجر جبل الهدى في جهازي العصبي أصطحبت أخيلة الحرية تحت بشرتي لئلا يشتبه أحداً بحمولتي من الأجنحة وأرتحلت إلى بيروت نعم بيروت التي لا يجهلها أي من عشاق الشعر صغاراً وكباراً حكماء وطائشين بكل بعنفوانها الماضي وإنكسارها الحاضر والتباسها المستقبلي كمعظم ما كان يعرف بعواصم الثقافة العربية عندما ولد جيلنا الشعري على امتداد ماكان أيضاً يعرف بالوطن العربي القاهرة، بغداد وبيروت.
سافرتُ بيروت لتسجيل برنامج البي بي سي السياسي عن أزمة الخليج وما كان ذلك ليستغرق أكثر من أربع وعشرين ساعة إلا أنني لبثت هناك سبعة أيام برمزها الوجداني والفكري العميق في مرجعيتي الذهنية والعاطفية، بما جعلها كافية لاستجراح الجراح ولتربية وحش الأمل ليقض مضجعي بذلك السؤال سؤال التجديد الشعري وسؤال المستقبل الوطني عربياً من جديد ومرات أخرى وأخرى وكل مرة بشكل مختلف أشد نهشاً ووهجاً.
وهما السؤلان السياميين اللذين شكلا الحبل السري لتجربتي الشعرية من اللحظة الأولى التي سولت لي نفسي أن طفلة من الجزيرة العربية بهيبتها التاريخية ومحافظة نظامها الاجتماعي الصارم يمكن أن تدخل أصابعها في السراب وتكتب بحبر مياه جوفية معشقة بالرمل مايكفي لسقيا كل مسامة من مسامات الصحراء وعشاقها، إلى هذه اللحظة الجارفة لكل معهودنا المعرفي والميداني والشعري التي أقف فيها أمام تحدي كتابة شعر طليق يتجاوز منجز قصيدة النثر فأعود طفلة من جديد. و «للشهادة تتمة بإذن الله».