«الجزيرة» - محمد السنيد:
كل نفس ذائقة الموت، والحمد لله أن اختصنا نحن المسلمين بركن هام من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، كما نشكر الله أن خصنا في بلاد الحرم الشريفين قبلة المسلمين، المملكة العربية السعودية برجال أوفياء وقادة مخلصين أخذوا على عواتقهم جميعا العمل بإخلاص وتفان ونكران للذات؛ خدمة لوطننا العزيز وشعبه الكريم، حتى أصبحت بلادنا ولله الحمد مضرب المثل بإقامة شرع الله، وسرعة التقدم لمستقبل زاهر في ظل وارف من الأمن والأمان. رحم الله من فارق دنيانا لينعم بحول الله بجنات عرضها السموات والأرض على ما قدموا من أعمال جليلة. وحفظ الله لنا قادتنا الذين يواصلون المسيرة بهمة عالية، وعمل دءوب.
ومن هؤلاء الرجال المخلصين صاحب السمو الملكي الأمير عبدالرحمن بن عبدالعزيز الذي انتقل إلى جوار ربه مساء يوم الخميس الموافق 1438/10/19 وصلي عليه بعد صلاة العشاء يوم الجمعة الموافق 1438/10/20 بالمسجد الحرام في مكة المكرمة، ونقل جثمانه إلى الرياض ودفن في مقبرة العود عن عمر يناهز الستة والثمانين عاما بعد مسيرة عمل جادة وعطاء سيظل نبراسا للأجيال القادمة من أبناء القوات المسلحة، سجل خلالها اضاءات مشرفة نقشت في السجل الذهبي لوزارة الدفاع إبان عمله بها نائبا لوزير الدفاع..
ولإلقاء الضوء على تلك المسيرة المباركة.. يسرنا أن نلتقي بسعادة اللواء (م) الدكتور إبراهيم بن محمد المالك مدير عام إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، والتي أصبح اسمها فيما بعد إدارة العلاقات العامة والتوجيه المعنوي للقوات المسلحة، واللواء إبراهيم كان أحد الضباط القريبين من الأمير الراحل بحكم تخصصه وطبيعة عمله شاهد مع سموه العديد من المواقف، وسجلت ذاكرته كثيراً من الأحداث، ولعلنا بهذا التحقيق والحديث نقدم للقارئ الكريم إطلالة عن صاحب السمو الملكي الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز نائب وزير الدفاع والطيران والمفتش العام السابق.
* نرحب بك سعادة اللواء في هذا اللقاء، ونود منك إلقاء الضوء على ذلك الأمير الذي يعتبر علماً من أعلام بلادنا بوجه عام، ووزارة الدفاع بشكل خاص.
- أولا، نسأل الله الواحد الأحد الفرد الصمد أن يتغمد فقيدنا الغالي صاحب السمو الملكي الأمير عبدالرحمن بن عبدالعزيز بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم خلال مسيرة عمله التي امتدت إلى قرابة الثلاثين عاما قضاها في عمل متواصل بمنتهى الجد والإخلاص. ولكن قبل ذلك أود تذكير القارئ الكريم بمن هو صاحب السمو الملكي: ولد سموه بمدينة الرياض في عام 1349 - 1931 وتربى في مدرسة والده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه-، وتعلم القرآن والعلوم العربية وأتم سموه دراسته لثانوية بمدينة الرياض، بعد وفاة الملك عبد العزيز رحمه الله بفترة التحق سموه بإحدى المدارس في ولاية كاليفورنيا الأمريكية والتي تجمع تدريس المقررات الثانوية وإعطاء برنامج خاص لتأهيل الطلبة لالتحاق بالكليات العسكرية. درس العلوم العسكرية في سان دييجو، ثم التحق بعد ذلك بكلية الاقتصاد التابعة بجامعة كاليفورنيا. اشتغل سموه في مجالات عدة في القطاع الخاص أسس خلالها العديد من الشركات التي ساهمت مساهمة فعالة في النهضة المباركة التي شهدتها بلادنا طيلة الأعوام الماضية.
صدر الأمر السامي الملكي الكريم رقم 1/10 بتاريخ 1403/1/16 بتعيين سموه ن نائباً لوزير الدفاع والطيران والمفتش العام (الاسم القديم لوزارة الدفاع الحالي) بمرتبة وزير.
ثانيا، الأمير عبد الرحمن يتمتع بشخصية رائعة تجمع بين القيادي الصارم والإداري الناجح، والمتابع الجيد لكافة أوامره وتعليماته، كما أنه كان أميرًا محبوباً متواضعًا كريمًا، متحدثاً لبقاً، إذا حضرت مجلسه فأنت بالتأكيد تخرج بفوائد من حديثه، والحقيقة فإنه كان شخصية محببة للقلوب.
* ماذا تذكر من هذه الأحاديث؟
- للحق من الكلمات الجميلة التي قالها وأنا استمع إليه كغيري عندما صدر الأمر السامي بمنح سموه قلادة الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وقد قال في حينها (يعلم الله بأن هذه القلادة بقدر ما هي تشريف، فإنها تكليف لي على بذل المزيد وأنها تضاعف الحمل، وتثقل المسؤولية، وأسأل الله أن تعينوني على تعديل الأداء، لنحسن العطاء) هذه الكلمات في الواقع كانت درسا بالنسبة لي، كيف يفكر الرجل وما هي تطلعاته.
* وما هو الشيء الذي لفت انتباهكم في سموه؟
- للحق والأمانة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز كان شديد التعلق بالله، قوي الإيمان، كان رحمه الله رجلاً متديناً، كثيرًا ما يستشهد في أحاديثه وكلماته بآيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية، كما أن الأمير عبد الرحمن كان ملتزماً جدًا، وأهم شيء في حياته أداء فروض الصلاة في وقتها، وكان دائم الحرص على إقامة الصلاة في أي مكان.
* وما هو الشيء الذي شدكم إليه؟
- بصراحة، الأمير عبد الرحمن رحمه الله كان يتمتع بشخصية بسيطة فيها عمق إنساني كبير، ودائما ما تأتي تصرفاته وأحاديثه مباشرة دون تكلف، كما كان يميل دوماً لتوجيه كلماته من القلب دون اللجوء إلى الكلمات المكتوبة، أيضا كان قريباً جداً من جلسائه يتحاور معهم في أحداث الساعة، كما أنه رحمه الله يتميز بالقدرة الفائقة للاستماع لمن يتحدث معه مهما كان نوع الحديث وبعد أن يستمع ويناقش يوجه ويتخذ القرار اللازم.
* عرف عن الأمير عبد الرحمن الحماس في جذب الشباب للانتساب للسلك العسكري، وهذا سمعت عنه الكثير. ما هي الإضافة التي تودون ذكرها في هذا المجال؟
- نعم، كلامك صحيح، وأنا أتذكر جيدًا حينما كان يشرف حفلات تخرج للكليات، والمعاهد، والمدارس، والمراكز العسكرية. وكان حينما يوجه كلماته للخريجين دائماً ما يحث أولياء الأمور والحاضرين على تشجيع أبنائهم لالتحاق بهذه الكليات والانتساب للعسكرية، وقد عمل رحمه الله بجد واجتهاد بجانب أخيه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز على تطوير أساليب القبول، وخصص لهذا المجال لجاناً اضطلعت بمهام القبول، وها هي اللجان أصبحت تدير عملها بتقنية حديثة وإجراءات مختصرة.
* سعادة اللواء.. ما هي الأعمال التي ترون أنها ميزت عمل الأمير عبد الرحمن فترة توليه المنصب؟
- الحقيقة أن مجيء سموه للوزارة كان في بداية ما أطلق عليه العصر الذهبي لوزارة الدفاع. حيث شكل مع أخيه الراحل الأمير سلطان ثنائياً يشع بالثقة والتفاني والعمل المخلص لتطوير الوزارة سواء من الناحية الإدارية أو الإنشائية أو الفنية، أو التدريب ورفع الجاهزية القتالية. وقد عمل سموه رحمه الله بهمة متناهية لتحقيق الأهداف المرسومة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- تم استكمال إنشاء المدن العسكرية، والقواعد الجوية، والأساطيل البحرية، حيث أصبحت القوات المسلحة بفضل الله ثم لجهوده المكملة لجهود الأمير سلطان تملك من القدرات ما يمكنها من الاستجابة لمتطلبات الوطن الدفاعية وأصبحت درعاً واقياً للأمة تحمي مقدساتها وتصون ثرواتها وتحافظ على مكتسباتها.
- دعم القوة البشرية بالتوسع في إنشاء الكليات والمدارس العسكرية حيث أنشئت في عهده كلية الملك فهد البحرية وكلية الملك عبد الله للدفاع الجوي، وتحويل المدارس العسكرية إلى معاهد لاستيعاب أكبر عدد من الشباب الطامحين مع فتح مراكز تجنيد وتدريب في مختلف مناطق المملكة.
-فتح باب الابتعاث للعسكريين للكليات والمعاهد العسكرية المتقدمة في بريطانيا، وفرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، باكستان والدول الأخرى التي تم التعاقد معها لشراء صفقات الأسلحة للتدريب على تلك الأسلحة وصيانتها وتشغيلها قبل وصولها للمملكة.
- إحداث برنامج التوازن الاقتصادي مع الدول المصدرة للسلاح والنظم الدفاعية والذي ينص على إنفاق خمسة وثلاثين بالمائة من قيمة عقود التسليح والمشروعات الدفاعية في المملكة. بناء المستشفيات العسكرية الكبيرة في المدن الرئيسية وتجهيزها بالمعدات الطبية الأزمة. وإنشاء أسطول جديد للخدمات الطبية يضم أحدث طائرات الإخلاء الطبي.
- تطوير المصانع الحربية وتحويلها إلى مؤسسة عامة للصناعات الحربية لتمكينها من المشاركة مع القطاع الخاص في التصنيع المشترك.
- بناء نظم جديدة للدفاع مثل نظام القيادة والسيطرة ومركز الدفاع الوطني ومراكز القيادة والسيطرة، ونظم المعلومات المالية والإدارية.
- تطوير الإدارة العامة للأشغال العسكرية وإنشاء إدارات وفروع للتشغيل والصيانة للمدن والقواعد والمرافق العسكرية.
- إنشاء إدارة عامة للمساحة العسكرية لرسم الخرائط العسكرية الجوية والبحرية وتدريب العاملين فيها في أرقى الدول المتقدمة حتى أصبحت تقدم خدماتها للقيادات والقطاعات العسكرية والمدنية.
* لقد رافقتم الراحل في العديد من المهام في داخل وخارج المملكة، ماذا تذكر من هذه الزيارات؟
- كما قلت لك سمو الأمير عبد الرحمن من خلال منصبه نائبا لوزير الدفاع كان شديد الحرص على الوقوف بجانب أخيه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز طيب الله ثراه حيث كان سموه نتاجاً لمدرسة سلطان بن عبد العزيز دائم السير على خطاه. فقد كان الأمير عبد الرحمن حينما يشرف تمريناً ميدانياً تجده ماشاء الله يناقش في غرفة العمليات كل صغيرة وكبيرة وكنا نلاحظ فيه الدقة، وسؤاله عن التفاصيل قبل بدء التمارين وللحق كان رحمه الله دائمًا ما يحرص على استعراض أبنائه المشاركين وسؤاله عنهم، والحديث معهم، والتصوير بجوارهم. كما حرص رحمه الله لأكثر من خمسة وعشرين عاماً على القيام بزيارات المعايدة لجميع المناطق بدءًا من ثاني أيام العيد. وفي العيدين بحيث يتقاسم المناطق بالتناوب مع أخيه وزير الدفاع. وللأمير عبد الرحمن عفوية خاصة عند توجيه الكلمات حيث كان يتمتع بإحساس أبوي مرهف ويحرص على رفع الروح المعنوية لأبنائه الضباط وضباط الصف والجنود. أما في زياراته خارج المملكة فقد كان كثيرا ما يمثل المملكة نيابة عن أخيه الأمير سلطان فيما يخص وزارة الدفاع حيث سافر لأمريكا، أوروبا، شرق آسيا، دول مجلس التعاون الخليجي، وقد كان منظماً جداً. حيث كان يعقد الاجتماعات مع أعضاء الوفد السعودي قبل السفر وفي أثناء المهمة، وبعد الانتهاء من المهمة، كما كان يحرص على الاستماع لمندوبي الدول المقابلة ويناقش بصراحة وفي أجواء جادة، لتحقيق أهدافه المرسومة.
* سعادة اللواء، ماذا تعرفون عن الراحل الأمير عبد الرحمن فيما يتعلق بالجانب الآخر غير الرسمي؟
- قبل أن أنتقل لهذا الجانب دعني أحدثك عن الجانب الإنساني في الإدارة للأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز، يشهد الله أن هذا الرجل عمل بصمت في عدة مواقف إنسانية تخص رجال القوات المسلحة، وكان يدافع عن آرائه وقرارات وزارة الدفاع دفاعاً مستميتاً وللأمير عبد الرحمن مواقف عديدة جدًا في هذا المجال. حينما صدر القرار الخاص بتعويض الضباط عن إجازاتهم وأقصد بها مكافأة نهاية الخدمة، فقد كان رحمه الله يدافع عن الضباط دفاعاً شديدًا لإلغاء أو تأخير القرار، وأذكر أنه ناقش ذلك مع خادم الحرم الشريفين الملك فهد رحمه الله آنذاك. وكان دائماً ما يردد هؤلاء أبناؤنا على الثغور بين الخنادق والبنادق ولابد أن يعطوا حقوقهم دون نقصان.
كما أذكر في يوم من الأيام جاءه أحد ضباط الصف برتبة رقيب أول تجاوز في رتبته مدة لم يترق، وسأله: لماذا لم يرقونك؟ قال له النظام لا يسمح، فانفعل وأعطانا محاضرة في حقوق العسكر ولا بد من مخافة الله فيهم، والنظام وضعه ولي الأمر، وممكن تغيره فهو ليس قرآنا منزلاً، وقال عبارته المشهورة (عندما كان الجيش قليل العدد، كنا ندق الأبواب لطلب عسكرة الشباب، وعندما كثروا نطلع لهم أنظمة تعقدهم)، وبناء على هذا قامت هيئات الإدارة بتعديل الكثير من فقرات نظام الأفراد، جعل الله ذلك في موازين حسناته يا رب العالمين. كما أن الأمير عبد الرحمن كان شديد الحرص على الابتعاث والإيفاد للخارج للتدريب سواء للفرد أو الضابط. وقد تحقق على يديه الكثير من ذلك.
أما فيما سؤالك عن الجانب الإنساني فأنا أذكر شخصياً عن الأمير عبد الرحمن أنه لم يرد لأي طالب شفاعة شفاعته، سواء في ترقية، طلب قبول، أو طلب علاج في إحدى المستشفيات العسكرية، أو خارج المملكة.
كما أنني مطلع والله يعلم بأن الأمير عبدالرحمن كان متولياً أمر الكثير من بيوت المواطنين يصرف عليهم من حر ماله حتى بالسيارات يزودهم، وللمعلومية فإن للأمير عبدالرحمن بن عبد العزيز طيب الله ثراه مبرة خاصة باسم سموه يصرف منها على المحتاجين في جميع مناحي الحياة.
في ختام لقائنا، نشكر لسعادتكم تفضلكم بهذه المعلومات، وأنا بدوري أسأل الله أن يعظم أجر سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز القائد الأعلى لكافة القوات العسكرية، والعزاء موصول لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، كما نتقدم إلى جميع أسرة الفقيد أبنائه وبناته وجميع أفراد الأسرة المالكة الكريمة بأحر التعازي وصادق المواساة.. سائلا الله للفقيد الرحمة والمغفرة وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان.{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.