كثيراً ما تهرب إلى الماضي.. تستصحب جميل أيام مضت وتسترجع عذب المعاني وحلو الليالي، وتحن إلى نسمة عبير ينسيها شقاء النهار.. تغفو وتنام.. ثم تصحو.. لتطلق للعبرات سبيلها ويبدأ ذلك الأنين المحزن.. أنين تردده الرياح وتبكي له الأمواج وتذبل أوراق معه الورد كمداً وألماً.. دموع تنساب على الوجنات حملت معها قهراً وظلماً.. دموع تصاحبها الذكريات وتتراقص عليها آهات السنين.. صبابة قد نضبت ومشاعر كفنها زوج وولد.. أمسى ذلك البيت مقبرة موحشة ساكنة.. لا يهتف فيها صوت ولا يتراءى في جوانبها شبح ولا يُلمح نور في أرجائها:
صبت عليها مصائب لو أنها
صبت على الأيام عدن لياليا
لم تتجاوز عقدها الثالث ولكن كل من رآها لم يشك أنها في خريف العمر أم للخمسين! جسد قد ضعف.. أماني تحطمت.. روح تاهت.. ونفس قد أضناها التعب.. شحب اللون وهزلت الرؤى، زوجة برتبة أم، فهي أم لأولادها وأم لزوجها، الكل يريد الجميع، يستقي من النبع ويقطف من ثمر البستان.. لا أراهم إلا استغلوا المسكينة واستعبدوها.. وهي قد استرسلت مع أهوائهم وانقادت لأمزجتهم حتى نالوا منها..
استحالت المسكينة إلى أرضية تطؤها أمزجة متعكرة وتدوسها أنانية مقيتة ولم يعد يعتني بتلك الوردة أو بتعاهدها ولو بنظرة أو حتى كلمة أو حتى ابتسامة.
كم جرحها الزوج بكلمة وكم أهانها بنظرة وكم قتلها بتصرفات رعناء! وكم أكثر عليها الصغار بطلباتهم ورغباتهم فهي بين زوج لا يرحم وأولاد ما استشعروا عظم هذه الإنسانة وأهمية وجودها في حياتهم.
أقول لها ولأمثالها: العمر واحد والحياة لا تتكرر، فلا تنسي نصيبك من الدنيا، أعطي لنفسك مساحات من الأنس وحلقي في فضاءات من كل ما تهوى نفسك فيما أباحه الله. خصصي وقتاً لهواياتك إذا عدمت من يدللك فدللي نفسك.. كافئيها إذا عز المكافئ وشاع الجحود. هي ليست دعوة للتنصل من الحقوق والهروب من الالتزامات.. هي وقفة مع نفس حتى لا ينضب النبع ولا تسكن الرياح ويستمر العطاء أكثر وأكثر.