د. عبدالحق عزوزي
إن كل من يقرأ التقارير الدولية الموضوعية والجادة لسنة 2017 أو من يطلع بتعمق على أحوال عديد من الدول والأمصار التي عرفت احتجاجات عاتية ابتداءً من تونس في ديسمبر 2010 سيعي مع الأسف الشديد أن الخريف السياسي والاجتماعي هو السمة الأساسية لعديد من تلك الدول التي كان بالإمكان أن ترسم لنفسها مسارًا أكثر نضجًا وأكثر عطاءً سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. والأدهى من ذلك أن دولاً دخلت في غيابات الحروب والصراعات الداخلية متبوعة بتدخلات أجنبية وعلى رأسها تدخلات شياطين الإنس من «داعش» والعناصر الإرهابية التي تدفقت عليها من كل صوب وحدب. وتلك الدول في حالة انفجار وتفكك يومي، ولا أظن أن فترة سنوات أو عقدين من الزمن كافية لرأب الصدع وجمع الشمل بين أبناء البلد الواحد.
إن الوضع خطير جدًا، وتسلسل الأحداث يوحي بأن بعض الدول المؤثرة في النظام الدولي هي أكثر نفاقًا من أي وقت مضى، وأنها لا تهتم إلا بمصالحها الداخلية والإستراتيجية، ولعل خروج بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي يعد أقرب مثال على ذلك. كما أن اشتعال الأزمات غير المنتظرة في مناطق عديدة يزلزل قواعد التحالفات.. واليد التي كانت تمتنع عن المصافحة تتحول بين عشية وضحاها إلى يد مصفقة ومسالمة، بل إلى مغازلة كما هو شأن تركيا مع روسيا، فسيناريو تحالف «تركي- روسي- إيراني» يتعزز كل يوم، وهو من الخطورة بمكان على المنظومة العربية وبالأخص على دول المنطقة في الشرق الأوسط.
وقد صدر لي مؤخرًا مع فقيه القانون الدستوري أندري كابانيس عن دار النشر الفرنسة العالمية لارمتان التي مقرها في باريس، كتاب باللغة الإنجليزية، تناول موضوع الدستورانية وأحوال الوطن العربي، ومن بين ما قمنا بتناوله دراسة وتحليل مسألة الجرح العميق الذي أصاب وما زال يصيب دولاً مثل العراق وليبيا، فهذا الجرح عميق ويستحيل أن يبرأ في تلك الدول سريعًا، وهي مسألة جيل، بل أجيال بأكملها، كما أن المجال السياسي العام سيبقى ملغومًا بألغام عجيبة قد يتأخر تفجيرها حسب الظروف والأحوال. والفاعلون السياسيون في تلك الدول يركبون أمواج الأحداث ويتصارعون داخلها ولا يأخذون وقتًا للاستعداد ولا للتفكير ولا لصياغة الإستراتيجية لينجو الجميع قبل أن يحاط بهم، علمًا بأن العلوم السياسية قد سطرت كل القواعد الضرورية لبناء الدول والمجالات السياسية العامة.
وحري بالفاعلين السياسيين الكبار عندما تصل دولة من الدول إلى نقطة التحول السياسي هو إعمال العقل وإعادة قراءة دور المؤسسات والدولة في هذا المجال السياسي الجديد وتصور قانون أسمي للبلاد وإعماله بطريقة سريعة ومرْضية للجميع عن طريق التوافق الشعبي.
إن المرحلة التي يمر منها العالم صعبة وصعبة جدًا ولا تسمح بتضييع الوقت في الارتجالية والتفاهات.. والدول التي دخلت إلى عالم الصراعات الداخلية اللا متناهية لن يرحمها أحد ولن يخرجها من مأزقها إلا ذاتها.. والدولة ما سميت أصلاً دولة إلا لأنها تتوافر على سيادة، وتلك السيادة تفرض على أبنائها العمل على تهيئة كل سبل وظروف التنمية والثقة والعيش المشترك، أما إذا أضحت حلبة للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية فإنها ستصبح عرضة للتفتت والتفكك الداخلي وعرضة للتدخلات الأجنبية المتنوعة من دول ولوبيات وأفراد وجماعات إرهابية.
فهناك تحديات جسام تنتظر دولاً مثل العراق بعد تحرير الموصل ومثل ليبيا أيضًا، فبدلاً من أن يتلهى بعض الفاعلين بإبداع خطابات رنانة وترتيلات مدوية وجوفاء لا تغير شيئًا من أوضاعهم اللهم إلا ما كان إلى الأسوأ، فلينظروا بموضوعية وواقعية كبيرة إلى الحال وإلى الإصلاحات والتحديات التي هم في حاجة إليها وتناسبهم بالاحتكام إلى أدوات الفكر والقواعد داخل المجال السياسي العام كما جاءت به أهم القواعد في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، التي هي قواعد وأسس على شاكلة القواعد الرياضية والفيزيائية والطب والهندسة وعلوم الأحياء. فلا يمكن أن يتداوى الإنسان بالخواطر الذاتية، بل بالأدوية الصحيحة والدراسة الطبية المتميزة.. ولا يمكن لربابنة الطائرة أن يكونوا سائقي شاحنات غير محترفين ولا متدربين، ولا يمكن تدبير إدارة قطاع بنكي أو مصرفي من دون بنكيين ومصرفيين مقتدرين يخضعون إلى قواعد التسيير والقواعد البنكية المتعارف عليها.. نفس الشيء يقال عن المجال السياسي العام وأدواته مثلاً؛ إِذ لا يمكن لتلك الأدوات أن تأتي من فراغ أو أن تختزل في مسارات أو أجهزة تنافي الطبيعة السياسية التي تفهمها وتسيرها العلوم السياسية كما هو شأن جل المجالات السياسية التي أبانت عن نجاحها منذ عقود.