د. حمزة السالم
إنكار الحقائق التاريخية هو دفاع سلبي لا يأتي إلا بعكس مقصوده. ففي إنكار الحقيقة إثبات لسوئها ولسوء من قام بها من الأبناء والأجداد، وهو تحمل لعتبها ولومها وخطئها، وتصديق لعدو ومُغرض وتحقيق لغرضه. وهو انشغال بتمويه تاريخ الأجداد عن الصعود به إلى معالي المستقبل.
لذا لم يتبرأ الأمريكان من دماء الهنود الحمر، لكنهم لم يتحملوا لوم دماء الهنود، بل عملوا على تحمل المسئولية في عدم تكرره وفي جعل بلادهم أعظم إمبراطورية العالم الحديث، فهي أشد الأمم في جلد ذاتها، فهي تجلدها جلد العير، لتدفعها في سباق استمرارية التطور الوعر الأليم. فما من أمة توقفت عن المسابقة في سباق التطور، إلا ومالت شمس عزها للمغيب. لذا تراها الوحيدة بين الأمم من لم ينكر وحشيتهم وظلمهم للعبيد، ولكنهم لم يتحملوا قط اللوم في الرق، ولكنهم تحملوا مسئولية نشر تحرير الرقيق وإزالة العنصرية. ولم ينكروا معاملتهم العنصرية الظالمة للمكسيكان والصينيين المهاجرين، وحشرهم اليابانيين في معسكرات معزولة أبان الحرب العالمية الثانية، بل فخروا بتاريخ آبائهم وأجدادهم وعملوا على تذكير أجيالهم به وبسوء ما فيه، لتجنب وقوعهم في أسر عنصري متحدث بليغ يقودهم للوراء في مطاردة وهمية لتاريخ محرف عن آبائهم وأجدادهم.
فما كان يُعتبر في أعراف الأمم والشعوب شرفا وفخرا بالأمس، يظل دائما فخرا وشرفا تاريخيا تعتز به الأمم المجيدة، حتى ولو أصبحت هذه الأفعال تعتبر في العرف الحاضر من العار والخطأ. وبما أن تاريخ الأجداد والآباء كان فخرا لهم، فسيظل فخرا للأبناء، إلا أن يستعير الأبناء منه فينكرونه ويتبرؤون منه. فليس هناك مجال لتحمل اللوم في ذلك، فكيف تُلام الشعوب على أمجادها. ولكن على الشعوب والدول والأمم تحمل مسئوليات تاريخ آبائها وأجدادها في استمرارية وحيها وأثرها لتحقيق المفاخر في أعراف الحاضر.
وكذلك لم يُنكر النصارى وحشية وظلم النصرانية التي طُبقت على مدار القرون، بل وثقوها، ولم يتحملوا اللوم على الدموية التاريخية للنصرانية، فقد كانت هذه الدموية هي نمط الحياة وشرفها. إنما تحمل النصارى مسئولية نصرانيتهم، فعملوا على منع تكرار ما سبق وجعل نصرانيتهم منارة سلام أممية.
وتاريخنا، قد كان فيه من الشدة ومن القسوة ما لا ننكره بل نفتخر به، فقد كان في زمانهم مفخرة لهم. فقد كان يتلاءم تماماً مع عصرهم.
يجدر بنا ألا ننكر تاريخ أجدادنا وآبائنا، ولا نستعير منه، بل هو فخر لنا نفاخر الأمم به. فلم يكن تاريخنا الدموي، ببدع بين تاريخ الأمم العظيمة والدول العزيزة والشعوب الآبية والمجتمعات الشريفة. فليس من الحكمة ولا من المنفعة أن نتحمل لوم الدماء في تاريخ مضى، فننكرها. ولكن يجب علينا أن نتحمل مسئولية هذا الإرث من الفخر والمجد، بضمان عدم تكرار ما حدث، وبتجديد ما عدى على صلاحيته الزمان.
قد أنكرنا أمجاداً كانت لنا، فوضعنا أنفسنا موضع الدفاع، فتجرأت الغارات تتوالى علينا من الشرق والغرب، بطعنها في تاريخنا وبتحميله سفاهات كل سفيه مجرم دموي أو متخلف عقلي، ادعى نسبة لإسلام باسم أو دعوى. فلو أننا تحملنا مسئولية شرف تاريخنا فقمنا بنفض الغبار عليه وصقله، لاستطعنا حينها إدراك قوته الكامنة في المجابهة بدل من حشر أنفسنا في خندق الدفاع التعيس.