نجيب الخنيزي
الفساد المالي والإداري أصبح ظاهرة عالمية، خصوصاً في ضوء تكشف تورط وانغماس عديد من الزعماء والرؤساء والمسؤولين، والحلقة الضيقة حولهم من المتنفذين أو أقربائهم بقضايا فساد في دول العالم المختلفة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الفساد ظاهرة تختص بها بلدان العالم الثالث (الجنوب) في حين تنتفي في البلدان المتقدمة (الشمال)؟
التجارب التاريخية والوقائع الحاضرة تؤكد أن الفساد أصبح سمة عالمية توجد وتنتشر في كافة البلدان والمجتمعات بغض النظر عن مستوى تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في الواقع فإن تهم الفساد لاحقت عديداً من الزعماء والمسؤولين وأقربائهم في عديد من الدول، كما هو الحال في كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وماليزيا وتركيا وإيران والبرازيل وإندونيسيا والصين وغيرها من البلدان.
أما في الدول العربية والإفريقية ودول أمريكا الوسطى والجنوبية حيث سادت ولفترة طويلة جداً الأنظمة العسكرية والديكتاتورية والاستبدادية في معظمها، فقد حول الجنرالات والحكام بلدانهم إلى مزارع خاصة لهم ولبطانتهم، على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب الذي يرزحون تحت وطأة الفقر والبطالة والجوع والمرض والقمع والإرهاب وانعدام اليقين وغياب الثقة والأمل في المستقبل.
كما أن دول الشمال الغني والغرب عموماً لم تكن بمنأى عن الفساد، ففي أوروبا اضطر المستشار الألماني السابق هلمت كول إلى تقديم استقالته من زعامة الحزب الديمقراطي المسيحي بعد فضيحة تلقيه أموالاً غير شرعية لتمويل حملات حزبه الانتخابية، وفي فرنسا أدخل ابن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، المعتقل بتهمة قبض رشاوى، كما أدين رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي السابق بتسهيل وتمرير صفقات مشبوهة مع شركة النفط الفرنسية (آلف اكتان) بالتعاون مع عشيقته كريستين ـ جونكور، كما لم يسلم الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي من التحقيق معه حل قضايا فساد، وفي إيطاليا حكم على رئيس وزراء سابق (جوليو أندريوني) بالسجن بتهمة الرشوة والفساد، كما مثل رئيس الوزراء الإيطالي السابق برلكسوني أمام القضاء بتهم أخلاقية وفساد مالي.
أما في دول شرق أوروبا فإن الفساد أصبح سمة عامة للمرحلة الانتقالية من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق وهو مرتبط بسياسة الخصخصة وتصفية القطاع العام ومختلف أنواع التعديات غير المشروعة كالتهرب من الضرائب وسرقة المال العام والتهريب والتلاعب بسعر الصرف وتهريب العملات الصعبة.
وفي روسيا فإن الفساد والرشى أصبحا جزءاً لا يتجزأ من النسق السياسي الاقتصادي والاجتماعي في أعلى درجاته خصوصاً في مرحلة حكم الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، والذي عبر عنه التحالف شبه المعلن بين رجال المال والسياسة من جهة والمافيا التي باتت تتحكم آنذاك في جميع مفاصل الحياة من جهة أخرى.
وفي الواقع فإن قضايا الفساد لم تعد تقتصر على الدول والحكومات والشركات متعددة الجنسيات وشركات السلاح بل طالت المنظمات غير الحكومية، وهو ما أجبر المفوضية الأوروبية قبل سنوات على تقديم استقالة جماعية بما في ذلك عضوة المفوضية رئيسة وزراء فرنسا السابقة أويث كريسون، كما طال الفساد قيادات الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا».
وفي كثير من الأحيان فإن القانون والقضاء والقضاة أصبحوا أداة وغطاء ودرعاً يحمي الفساد وبخاصة فساد كبار المسؤولين والمتنفذين وهو ما يحصل بالفعل في عديد من بلدان العالم الثالث بما في ذلك البلدان العربية.
لقد تنبهت الأمم المتحدة لحجم المشكلة الخطيرة (الفساد) التي تهدد الاستقرار ونظام القيم والأخلاق في العالم، وأصدرت قراراً مهماً حول وجوب مكافحة الفساد على المستوى الدولي، وقد تشكلت في عام 93 (منظمة الشفافية الدولية) ومقرها برلين، وعقدت عدداً من المؤتمرات لهذا الغرض.
ومن الملاحظ أنه حيث توجد أطر سياسية وقانونية ورقابية قوية وحيث يوجد حضور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني، فإن الفساد يتم تطويقه ومحاصرته وكشفه، واتخاذ الإجراءات النظامية والقانونية والقضائية الرادعة بحق مرتكبيه مهما كانت مواقعهم، غير أنه في معظم الدول (جلهم من بلدان الجنوب) حيث تكون الأطر السياسية والقانونية والقضائية ضعيفة ومخترقة أو معدومة، وفي ظل شلل وغياب مؤسسات المجتمع المدني، وطغيان النظم الشمولية والاستبدادية، فإن ثروات ومقدرات تلك البلدان تصبح لقمة سهلة في متناول أصحاب السلطة والنفوذ، ويمتد الفساد ليشمل الحلقات العليا والحلقات الدنيا ضمن الجهاز البيروقراطي المترهل، وما سهل عليهم تحقيق مصالحهم الخاصة والأنانية انعدام أو ضعف التخطيط والإصلاح الإداري والإصلاح الوظيفي، وشلل أو غياب أجهزة الرقابة والتحقيق والمحاسبة، إلى جانب تردي الأوضاع المعاشية والمادية لصغار ومتوسطي الموظفين، الذين يعيشون البطالة المقنعة وسط الإهمال والتسيب والروتين والإساءة للمواطنين.
في الغرب عموماً فإن الثروة هي المدخل إلى السلطة، أما في بلدان الجنوب والشرق فإن السلطة هي المدخل لتحقيق الثروة، حيث يستغل رجال الحكم والشخصيات العامة مواقعهم بغرض الإثراء الشخصي غير المشروع عبر العمولات والسمسرة وسرقة وإهدار المال العام وعقد الصفقات المشبوهة.
لذا فإن عديداً من البلدان ومن بينها السعودية، أقرت خطط وبرامج للإصلاح الإداري والإصلاح الوظيفي وتطوير وإصلاح النظام القضائي وأجهزة المراقبة والمحاسبة، وعملت على تطوير الأنظمة والقوانين لتتواكب مع متطلبات الحياة والعصر، وتطبيق مبدأ «من أين لك هذا؟» وتجريم أي تعدٍ على الأموال العامة أو استخدام الموقع والنفوذ والوظيفة من أجل الإثراء غير المشروع على حساب حقوق ومصالح الدولة والمواطنين. وفي هذا الإطار فإن وسائل الإعلام المختلفة ومناهج التربية والتعليم تضطلع بدور كبير في التوعية الفكرية والوظيفية والأخلاقية حول احترام الملكية العامة للدولة والعمل على حمايتها من أي اعتداء أو إهمال أو تسيب، وفضح وكشف ومقاضاة المتلاعبين بأموال وحقوق ومصالح الدولة والشعب أياً كانت مواقعهم.