د. خيرية السقاف
مع أن حرارة الطقس لا تطاق خارج العلب الاسمنتية المبردة, والعربات الحديدية المغلقة..
ومع أنها تمادت في حريقها الحد الذي لا يحتمله إنسان من لحم, ودم, وعظام, ورأسه بالكاد يمكنه أن يمرر قليلاً من الوقت فيها, لا تزيد كثيراً عن دقائق كي لا يصاب بضربة قاضية يذهب في إثرها للآلة الحدباء محمولاً..
ومع أن هذه الأسباب كانت كفيلة بالقرار الإنساني بعدم إلزام عمال النظافة, والبناء, والحراسة في هذا الطقس للعمل تحت الشمس, وتحديداً في ذروة منتصف النهار, وما يليها.....
إلا أنه لا يزال عامل النظافة, والبناء, في الشوارع الخلفية, داخل الأحياء يقطعها طولاً, وعرضا بمقشته, يسند ظهره المثقلة المبللة من فرط الماء إلى جذع شجرة, أو إلى جدار رصيف يستلهمه لحظة شهيق ساخن, وزفير موؤود..!!..
مع الحالة, وبكل تفاصيلها اليومية, يدلف لأقرب مصلى عند سماعه الآذان, يقف بين الصفوف بكلِّه الكادح البئيس!..
بينما يتذمر المصطفُّون من عرقه ينفث رائحة الشمس, القيظ, الغيظ, الحاجة, الفاقة, الكدح, والفراغ من الحيلة..
وحين تأتيه عربة تنقله لحيث مأواه, تحصده مع نظرائه في علبها الضيقة, يجر قدميه وهما تتحدثان عنه بأنينهما..! لا أشك في أن صدره مكظوم بالدمع والآهات!!..
وهو حين يأوي لحيث يدس جسده ساعات ليعود للشمس, والريح, والهواء, والغبار فلست أدري أي نوع من المأوى يلوذ إليه؟..
لا تكفي سطور في لوائح شروط أن يكون, مريحاً, نظيفاً, بل الأمر يحتاج إلى مراقبة وتدقيق, ومتابعة, وفحص مستديم لأحوال العامل باختلاف وظيفته, ومواقعه..
فهل تتوفر في مسكنه كل الخدمات؟ من الباب الآمن, للفراش النظيف الهانئ, للحجرات الوسيعة, والمطبخ المجهز, وآلات النظافة, وغسل الملابس, ومنافذ استنشاق الهواء المنعش.. وكيف هي أيضاً حالتها..؟!..
في ضحى الأيام, وظُهرها أشفق إن قدِّر لي أن أعبر هذه الشوارع الخلفية، على الذين يقتاتون من تعبهم, وفاقتهم, وحاجتهم.. أسترجع تلك الصباحات الشبيهة المنبثقة من غرة الفجر في الشوارع حين كنت ألاقيهم جوار عربتي مكدسين في علبهم المستطيلة, والنعاس يغلبهم فتتمايل رؤوسهم على أكتافهم, وأنا في طريقي إلى الجامعة ذلك الطريق الطويل الواضح المتاخم بالأبنية والعمائر، وحتى اليوم وأنا أبحث عن المواقع في خريطة طرق وشوارع ومنافذ الرياض التي كبرت, وكبرت, وألقت إلينا بالأسئلة إلى أين؟..
وأين نحن في طرقها الطويلة الكثيرة باتساعها وامتدادها..
ولا أزال أعيد كتابة عنهم, وهم في بؤسهم يمضون!!..
فساعات عملهم التي تبدأ الواحدة بعد منتصف الليل وإلى الواحدة بعد صلاة الظهر تتضمن في ضوء "جمرة القيظ", وشدة سخونة المناخ, أن يكون عملهم من التاسعة مساء وإلى التاسعة صباحاً, لحين تنخفض درجات الحرارة, وترطب النسمات..