د. محمد عبدالله العوين
العالم كله حار يتشظى بنسب مختلفة؛ حتى مدن أوروبا تعيش درجات حرارة عالية تصل أحياناً إلى الثلاثين إلا في المناطق الجبلية المرتفعة كسلسلة جبال الألب التي تمتد فاصلة بين الحدود الفرنسية والإيطالية وطرف من الأراضي السويسرية ثم تخترق وسط سويسرا، وقد تعرضت في إحدى رحلاتي إلى أوروبا إلى طبخة على نار غير هادئة ومدفوعة الثمن بسعر مرتفع جداً في روما وباريس، بحيث اضطر كثير من السياح المتوافدين إلى روما للاطلاع على آثارها الإغريقية القديمة ومبنى "الكولو سيوم" الروماني إلى الاختباء عن حرارة الشمس في الأزقة الضيقة أو الغطس في أحواض النوافير أو الاستحمام بكامل الثياب تحت الشلالات الاصطناعية في الميادين الرئيسة، أما في باريس فكنت أمني النفس بالتفرج على سباق الدراجات السنوي الفرنسي المميز الذي يخترق فرنسا من شمالها إلى جنوبها ثم يعرج شرقاً ثم إلى الوسط منتهياً بباريس ممنياً نفسي بمتعة لا حدود لها مصطفاً مع الواقفين على جانبي شارع الشانزليزيه وباحثاً عن فرصة تسللت إليها بخفة بين الأجساد التي تكاد تتعرى من شدة الحر في وقت الظهيرة الساطع اللامع الملتهب عند الساعة الثانية ظهراً موعد اقتراب أفواج الدراجين الذين يزيد عددهم على المائة وخمسين دراجاً، ترتيب جميل وشعب لطيف وشوارع فسيحة رائعة مظللة بالأشجار العالية التي تسابق إلى وارف ظلها من جاء مبكراً عالماً بما سترسله على المتفرجين شمس الظهيرة اللاهبة من شواظ، ولكنني وأنا الصحراوي الجاف الحاف القادم من اللهيب والمرتجي قطراً ومطراً وندى وظلاً ونسمات رقيقة رفيقة عذبة والحالم بربيع أوروبي يسكن ولا يبرح أبداً ذاكرة ابن الصحراء حين يمر ذكر اسم أوروبا، أين ما كنت أمني النفس به وهذه الشمس الباريسية النازلة علينا من عليائها البعيد وكأنها تستقر فوق رؤوسنا لا فاصل بيننا ولا حجاب ترسل علينا ما لا ترسله شمس صحراء نجد التي هربنا منها، أهارب من نار إلى نار كالمستجير من الرمضاء بالنار؟!
لم أطق صبراً على الحمم التي ترسلها شمس باريس هدية لزائريها، وانقلبت الصورة المثالية الجميلة المتخيلة عن روما وباريس في تلك الرحلة، ففي روما وخلال عشرة أيام لم تنزل قطرة مطر واحدة على غير المعتاد، ربما لأنني أتيت بجفافي الصحراوي ونقلت العدوى إليها، وفي المحطة الثانية التي كنت أتوق إلى تعويض يليق بما عشته من تسخين وأمواج من العرق المتصبب في أثناء جولتي في عز الظهيرة على مبني الكولو سيوم في روما؛ ولكنني أصبت بخيبة أمل كبرى؛ فليست باريس بأطيب من روما، وتشابهتا مع الرياض التي فررت منها هارباً كما يفر منها هذه الأيام من يملك القدرة على الفرار لا إلى المدن الأوروبية التي قد تكون عدوى اللهيب وصلت إليها؛ بل إلى المناطق الجبلية العالية الممطرة في سلسلة "الألب" بالنمسا وسويسرا وإيطاليا، وغيرها.
نار يا حبيبي نار..
نحب صحراءنا ونعشقها ونذوب في رمالها وجبالها وسهودها ومهودها؛ لكنه العشق المعذب المضني كحالة كل العاشقين المحرومين، ولذة العشق في حرمانه ومنعه الوصل، ولو نال العاشق لما أبدع، ولو تملك العاشق لزهد ولانقلبت الصورة المثالية المتخيلة وأصبحت عادية كسائر الصور، هذه حالة صحرائنا نحبها ونعشقها وتتمنع علينا، وكلما منعت ازددنا غراماً بها، وكأننا نعيد قصة العذريين الذين يجدون في الحرمان لذة وفي تمنع الحبيب سعادة!
الناس يفرون من نار كنة القيظ التي لم تطبخ الرطب فحسب؛ بل طبخت الأجساد أيضاً، ولم تشتك أجسادنا فقط؛ بل اشتكت حتى المكيفات المخفي منها والمعلن، واشتكت الجيوب من فواتيرها الباهظة التي لا فرار منها ولو اقترض غير القادر لتسديدها، فلا طاقة يمكن أن تحتمل حالة الشواء لا في الظهيرة ولا في ما بعدها من ساعات النهار؛ بل حتى في منتصف الليل!
إنه الحب الصحراوي القاتل؛ فأين المفر لغير القادر على الفرار إلى جبال الألب؟!