د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تتحوَّل بعض مناطق المملكة صيفًا إلى لهيب حار، لا يمكن تحمله والتعايش معه إلا بمساعدة مكيفات هواء، تلطِّف الهواء داخل المنازل، وتشعله خارجها. وتحصر المكيفات الناس في مساحات ضيقة جدًّا، تحد حركتهم متسببة لهم فيما يشبه الاكتئاب نتيجة للإحساس بعدم القدرة على التحرك بحرية في الفضاءات المفتوحة خارج المنازل. وضع معقد، لا يمكن التخارج منه إلا بالدعاء بالرحمة والصبر. لذا فالبلاد تمر بما يشبه الهجرة المؤقتة في هذا الموسم الذي أطلق عليه أسلافنا «طباخ اللون».
ولاحظنا جميعًا أيضًا أنه مع تزايد لواهيب الصيف هناك أيضًا تصاعد مكثف لكميات الغبار والأتربة والعوالق الترابية التي يعزوها بعض المهتمين لتآكل الغطاء النباتي بشكل متسارع نتيجة للرعي الجائر، والعبث المتزايد بالبيئة والأشجار لدينا. وقد تحولت نوستالجيا الزمن القديم لدى بعض المواطنين، والملل من البقاء دائمًا داخل نطاق المدن والأسمنت، إلى جنوح كثير منهم لتربية الإبل للهواية والتنزه. فالناقة أصبحت محظية لدى البعض كمقتنياتهم الأخرى. «فأجدادنا الطيبون» عاشوا مع الإبل في سرّاء الصحراء وضرّائها.. كابدوا لوافح سمومها صيفًا، ولواذع صقيعها شتاء. صاحب الإبل الجديد لا يأبه للدمار الذي حل بصحاري المملكة نتيجة الرعي الجائر، وعبث بعض العمالة بالبيئة، وهو أمر لا يمكن أن يعوَّض ولو بعد عشرات السنين. وقد أحدثت الدولة مشكورة ناديًا للإبل، نتمنى أن يهتم بتنظيم هذه الهواية ورعايتها كجزء من التراث، ويحد من ضرر بعض ممارساتها الخاطئة على البيئة، كما يسهم في تقنين التنقل من مكان لآخر لهذه المعسكرات بوقودها، وزيوتها، ونفاياتها. ونحن لم نكتفِ برعاتنا الجدد بل فتحنا أراضينا كمراعٍ للدول المجاورة.
نبقى بمن يكابدون فواتير الماء والكهرباء صيفًا، ولا يجدون سبيلاً لتغيير الأجواء. فبعضهم يذهب لبلاد مجاورة، الطقس فيها أسوأ بكثير من طقسنا؛ لا لشيء إلا للتخفيض الكبير لأسعار الفنادق، وكثرة الفضاءات المغلقة المكيفة، وتوافر بعض المرونة الاجتماعية التي تسمح بالتنقل العائلي فيها.. فتراهم ينامون النهار، ويخرجون في الليل فقط، ويعتبرون ذلك سياحة.
أما مناطقنا السياحية الجميلة ذات الأجواء المعتدلة فهي ليست أحسن حالاً من صحارينا؛ إذ تعبث العمالة الخارجية بشجرها وحجرها. ويزيد الطين بلة جهل بعض مرتاديها ممن ينقصه الوعي البيئي؛ إذ أحالوا المنتزهات إلى ما يشبه أماكن لكب النفايات. ويبدو لأول وهلة أنهم يفعلون ذلك كردة فعل على ارتفاع أسعار الإقامة في مصائفنا، ويعتقدون أن أصحاب النزل مسؤولون أيضًا عن تنظيف أماكن التنزه. وارتفاع تكاليف الإقامة قد يعود لعاملَيْن مهمَّيْن: موسمية الإيجارات، وموسمية تكاليف العمالة. فالمستثمر يضطر لاستئجار عمالة سنوية، تبقى عاطلة طيلة بقية السنة. كما أن كثيرًا من مصائفنا تفتقر لمقومات أخرى تجعلها جاذبة للسياح.
فإذا ما أردنا دعم السياحة الداخلية فعلينا أولاً فهم الأسباب التي يرحل بسببها مواطنونا للخارج، ثم تقديم مغريات حقيقية لهم في مناطقنا السياحية، من حيث المرافق والأنشطة السياحية. ويمكن تسهيل الاستثمار وتنشيطه بتوفير العمالة الموسمية، ودعم إنشاء المشاريع.. فما زالت الأراضي البيضاء غير المستغلة تشكِّل مشكلة كبيرة لمصائفنا؛ فكثير من الأراضي والمواقع الجميلة مجمَّدة من أجل الاستثمار العقاري فقط. وهناك عامل مهم أيضًا، وهو ما يتعارف عليه بـ»العدوى الاجتماعية»؛ فلو غلَّب بعض الوجهاء لدينا حسهم الوطني، وقصدوا مصائفنا، لاقتدت بهم بقية الشعب. ويتذكر جيدًا مَنْ هم في أعمارنا كيف كان الناس ينتظرون بفارغ الصبر حلول الصيف من أجل التصييف في الطائف؛ إذ كانت أجهزة الدولة تنتقل صيفًا. ولكثير منا ذكريات لا تُنسى هناك. فالناس أحيانًا تقصد الأماكن ليس للأماكن ذاتها بل للاجتماع بالإخوة والأحبة في رحابها. والله من وراء القصد.