فهد بن جليد
بالكاد تستطيع فهم كلامه بوضوح، فهو يتحدث بصعوبة بالغة، كونه مُصاباً بشلل دماغي كامل مُنذ الطفولة, ليعيش حبيساً لفراشه وكرسيه المُتحرك أكثر من 42 عاماً، لا يتحرك منه سوى أصبع يده اليمنى، الذي يرتجف باستمرار ولكن الإرادة والعزيمة جعلته في كل مرة يحاول ثم يحاول أكثر لإصابة الهدف - بملامسة أزرار جهازه المحول - ليرصَّ الحروف ويكوِّن الجُمل والكلمات، حتى يترجم قدرته على أن يكون إنساناً كاملاً قادراً على التعبير عن نفسه والبحث عن ذاته لإحداث التغيير في حياته، من خلال شاشة صغيرة هي كل أمله في أن يُطل من خلالها على العالم، وأخيراً نجح في أن يؤلِّف 16 كتاباً جعلته منه أنموذجاً عالمياً لكسر قاعدة العجز، إننا نتحدث عن إبداع المُعاق التركي (أردال يالجين).
ما أحوجنا إلى تجاوز كل الثقافات والأعراق والأجناس لنتداول مثل هذه القصص المُلهمة - والتي لا شك أن في مجتمعنا الكثير منها - ولكنها تحتاج الدعم وتسليط الضوء عليها أكثر، لنتجاوز معاً الخجل المُجتمعي حتى تظهر للعلن لتمثّل نماذج تصنع الأمل والتغيير من حولها، فالفضل يعود لوالد أردال ووالدته اللذين وقفا بجانب ابنهما حتى يبحث عن ذاته ويصنع الفارق في حياته، ولم يخجلا من حالته الصحية شديدة التعقيد، حتى غدا مُلهماً تتناقل حكايته كبريات وسائل الإعلام العالمية وتشيد بتجربته، كما حدث مع الإنجليزي ستيفن هوكينغ المُلّقب بخليفة نيوتن الأذكى، الذي لم تمنعه أعطاله الجسدية من أن يكون العالم الفيزيائي الأشهر في العصر الحديث، وكما يحدث الآن مع الصديق عمار بوقس (قاهر المستحيل) الذي يمثِّل بطلاً لقصة سعودية مُلهمة ما زلنا نعيش فصولها، فضلاً عن كثيرين ما زلنا في انتظار ظهورهم والكشف عن إبداعاتهم، فالطريق في هذا المضار طويل وشاق، ولكنه يبعث على الأمل والفخر في نهايته المُضيئة والمُشرقة متى ما تم تجاوز الصعوبات بفضل الناس الطيبين حول هذه النماذج، والذين يدفعونهم بكل صدق وحب وصبر للوصول إلى تلك النهايات السعيدة وحصدها.
هناك مواهب إبداعية كامنة عند أطفالنا المُعاقين علينا الحذر من وأدها بنظرتنا القاصرة، ومسؤولية الآباء والأمهات اكتشافها مُبكراً وتنميتها ودعمها وصقلها -قبل فوات الأوان- بإيصالها للجمعيات والمؤسسات الفاعلة في المجتمع حتى ترى النور، وإن كنت أرى دوماً أنَّ البيت هو المحضن الأول لتفجير تلك الطاقات والاعتراف بها قبل إخراجها، شريطة أن نتخلَّص من بعض مفاهيمنا السابقة التي تتمحور حول مقولة البؤس الخاطئة والعاجزة (العقل السليم في الجسم السليم) وهو ما لا يتوافق مع قصص أردال والآخرين، وقصص غيرهم ممن لم نصل إليها ونكتشفها بعد، لأنَّها ما زالت -للأسف- حبيسة عقلية ونظرة صاحب جسم سليم (لا أكثر).
وعلى دروب الخير نلتقي.