د.فوزية أبو خالد
في شهادتي الشعرية لسوق عكاظ ختمت الجزء الأول منها الذي نشر الأسبوع الماضي بانشغال مشروعي الشعري منذ إصدار ديواني الأول إلى متى يختطفونك ليلة العرس بالسؤالين السيامين اللذين شكلا الحبل السري لتجربتي الشعرية من اللحظة الأولى التي سولت لي نفسي أن طفلة من الجزيرة العربية بهيبتها التاريخية ومحافظة نظامها الاجتماعي الصارم يمكن أن تدخل أصابعها في السراب وتكتب بحبر مياه جوفية معشقة بالرمل مايكفي لسقيا كل مسامة من مسامات الصحراء، وعشاقها إلى هذه اللحظة الجارفة لكل معهودنا المعرفي والميداني والشعري التي أقف فيها أمام تحدي كتابة شعر طليق يتجاوز منجز قصيدة النثر فأعود طفلة من جديد.
وقد وجدت أنه قد يكون من المجدي لتقريب التصور بمدى شهوتي الطائشة وشغفي المتبتل بالبحث عن غواية جديدة للشعر والشعراء تقترف مابعد قصيدة النثر بتجاوز التكرار الجمالي لقصيدة التفعيلة والتفشي التسطيحي لقصيدة النثر أن أشغلكم معي بالأسئلة المزعجة التالية :
من يستطيع اليوم أن يضع سقفا أو سماء لتحديات الشعر والشعراء ومعهم كل من يدعي الانتماء لمختلف حقول الإبداع في اللحظة التي تتناثر أمام أعيننا وليس في الأخيلة أو الكوابيس حياة بشرية مائجة لشعوب طائلة فتصير في لمح البصر مجرد هباء.. فيما لا يشبهه و(أستغفر الله العظيم) إلا أهوال يوم الحشر؟؟؟.
فإذا كانت الكاميرات قد فشلت تماما بكل قدرات الدجتل المتناهية الدقة اليوم أن تمس ولو مسا مشهد رماد البنايات والعمائر والبيوت التي تحولت في أقل من ثانية إلى خراب ولم تنجح في إقامة أي علاقة بين الصورة وبين البصر إلا ذلك النجاح اللئيم الوقح الذي عود العيون على التعايش مع حضيض الحرب على أبسط الحريات، فبأي قصيدة يستطيع شاعر العقد الأول والثاني من الألفية الثالثة أن يكتب شعرا يعبر عن هذا العدم البواح ؟ والأهم أي شعر نحتاج أن نخترع اليوم لنقاوم هذا العدم؟
لا أظن المعلقات ولا الإلياذة والأوديسة ولا أرض عزرا باوند ولا أفريقيا سونيكا ولا كبرياء جبريل مازيرال ولا كرامات جلال الدين ولاشطحات الخيام ولا غربة ناظم حكمت ولاقبر قاسم ولاجدارية محمود درويش الشاهقة ولاتمرد فوزية العذري ولا جحيم دانتي ولارياح الدميني وبروقها ولا أنقاض محمد وغبطته ولاحلكة أحمد الملا ووهجها، ولاظل هدى الدغفق ولهفتها ولاانتفاضة مليحة مسافر ولا سخرية الماغوط الباذخة ولا زهو زاهي ولامياد ولادة ولا وله ليلى الأخيلية ولا تعدد غازي القصيبي ولاجبروت أدونيس الشعري ولا انتحار سلفيا بلاث والحاوي ولا عبقرية شكسبير ولا عزلة المعري وعيسى مخلوف وسليم بركات وعائشة أرنؤوط وإتيل عدنان وحمزة شحاته.. ولا كل ماعرفنا من أشف الشعر وأشرسه، من القصيدة العامودية إلى قصيدة النثر يمكن أن تكفي خبراته أو تجلياته لمواجهة التحدي الشعري لهذه المرحلة التي نعيشها اليوم.
وإذا كانت لوحة الجورينكا كافية للتعبير عن وضاعة السياسة وبشاعة الحرب وإرادة الشعوب في قول لا، وإذا كانت صورة الطفلة الفيتنامية تركض في شوارع فيتنام وقراها عارية إلا من غلالة ثوب النابلم الحارق على عودها الطري كافية لهزيمة أمريكا، فأي تحدٍ يواجه الشعر اليوم، بينما لا صورة الطفل إلان ولاكل أشلاء ماكان أطفال في سوريا والعراق واليمن وليبيا و..و.. تحرك شعرة في العالم؟؟
فهل يشفع للشعراء اليوم أو دعني من التعميم ..هل يشفع لي اليوم كشاعرة أن أنشغل باليومي والعادي في كتابة قصيدة النثر ولم يعد اليومي يومي ولم يعد العادي ماتعودناه بل أصبحت كل أسئلة الشعر السابقة محض تمارين رحيمة على أسئلة الشعر المرهقة الفاجعة القاسية الجديدة لو أردنا حقا كتابة شعر في القصائد سواء كانت قصائد عمودية، تفعيلة، أو ما بعد قصيدة النثر وما بعد الشعر المنجز عموما شكلا ومضمونا.
وإذا كانت نازك الملائكة قد كتبت قبل نصف قرن» «والذي أعتقده أن الشعر العربي يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقى من الأساليب القديمة شيئا «، وقد صدقت الرؤى، فقول الشاعر الإنجليزي بريتون « إن على الشعر ألا يكف عن التقدم سواء لجهة اكتشاف مجاهل لم يبلغها الوحي الشعري من قبل أو لجهة البحث عن إمكانات كامنة في ذات الشعر وفي المجال الكوني حوله ليبقي على نسغ الشعر وهو قوته التحررية « لا يزال طازجا كأنه كتب اليوم.
وفي كل هذا لا يمكن أن أغض الطرف عن إشكالية الشعر أسئلته وتحدياته الجديدة المتعلقة بثورة طرق الكتابة. فمع أنه يبدو وكأننا تأقلمنا جميعا بمختلف مراحلنا العمرية مع استخدامات التقنية الجديدة إلا أنني أشك في هذا الإدعاء حتى بالنسبة للشباب الصغار.. فتحول الكتابة اليوم وإن بدا تحولاً تقنياً ليس إلا فإن الزمن الآتي قد يفاجئنا عما قليل جدا بأنه تحول يقلب طرق التفكير والإحساس ويبدل مجرى التعبير وعمق العلاقات بيننا وبين أنفسنا وبين الآخرين وبيننا وبين المكان والوقت والمفاهيم في أوجه لم نجربها من قبل.
كنت بصدد كتابة هذه الورقة أعود لقراءة بعض المراجع ومما وقعت يدي عليه سيرة نزار قباني الشعرية وفيها عدد من الصفحات لمسودات قصائده الملطخة بالأسهم والتشطيب بحيث نستطيع أن نرى الكلمة وبديلها، وأجد ذلك المثال وإن بدا بديهيا أو ساذجا محملا بأسئلة تحديات الشعر في علاقته بهذا الثورة التقنية التي تمكن الشاعر من كتابة نفس القصيدة بعشرات الأشكال المتغيرة والمتحولة من حالة كحالة كماء نافورة لا يستعاد . هذا عدا عن فتنة وعبء ومغامرة عدم استقرار التحول التقني وسرعته الضوئية وجرأته على التحديثات بشكل ربما يواجه الشاعر لأول مرة بمن يتحدى غوايته الشعرية وجموحه التجديدي وبالذات على مستوى سؤال الشعر الوجودي وعلاقة الشاعر باللغة والمفردات، والصور والإيقاع، والمضمون والقراءة، والشغف والمغامرة وكل فضاءات الشعر السافرة والسرية.
هذه شهادتي على تجربة شعرية تجرأت عبر معابر عمري وتتجرأ وهي تقترب من مشارف الوداع على أن تقول: «ليس للشاعر إلا شجاعة استلهام الأسئلة إذا أراد أن يبقى على قيد الشعر في الحياة والموت.