حمّاد السالمي
* سعدت مساء الجمعة ثالث أيام عكاظ الحادي عشر هذا العام؛ بإدارة حلقة نقاش بناءة حول تاريخ الطائف المأنوس ومعالمه التاريخية والآثارية. كان ضيوف الحلقة من خيرة الباحثين والدارسين في تاريخ الجزيرة العربية قديمًا وحديثًا. وهم الأصدقاء: (د سعد بن عبد العزيز الراشد، ود عبد الله بن محمد الشارخ، ود محمد بن سلطان العتيبي، ود مترك بن تركي السبيعي). وصل بنا النقاش إلى إيضاح الكم الكبير من المعالم والآثار الذي تكتنزه الطائف عبر تاريخها الطويل، وإلى ضرورة معرفة وحصر هذا المكنز التاريخي، ثم صيانته، والمحافظة عليه، تمهيدًا لاستغلاله معرفيًا واقتصاديًا، خاصة والطائف؛ تُعنى رسميًا وشعبيًا بمنبر سوق عكاظ، الذي هو منبر لغة العرب، وميدان أدبهم وشعرهم وثقافتهم في جاهليتهم وإسلامهم.
* كنت أقول وما زلت؛ أننا فيما يختص بالمحتوى التاريخي والآثاري الذي ينتظم بلادنا في كل بقعة منها؛ يجب أن ننتقل اليوم قبل الغد؛ من موقف المُعدّد والمقرظ والمُمجّد لهذا الإرث الحضاري العظيم، إلى موقف العارف بكل تفاصيله، والواعي بقيمته وأهميته في حياتنا المستقبلية. هذا يدفعنا بطبيعة الحال؛ لكي نخطط لاستغلال هذه الثروة معرفيًا وسياحيًا، داخليًا وخارجيًا. هذه مهمة ليس لها إلا الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، فما أحوجنا اليوم؛ إلى تشجيع المشاريع السياحية ودعمها بكل الوسائل، وإلى فتح باب السياحة الخارجية، التي توفر مداخيل بديلة لمداخيل النفط الذي هو ثروة (ناضبة) لا محالة، بينما آثارنا هي ثروة (نابضة) لا (ناضبة).. نابضة بالحياة والأمل لأجيال المستقبل، لأنها جزء أساسي من تاريخنا، ولها جذور تمتد لآلاف السنين.
* هناك مفهوم راسخ وخاطيء عند الكثيرين منا مفاده: أن نهاية عصر النفط تأتي بنهاية وجوده كمادة خام. الحقيقة التي تدور حولها أبحاث علمية جادة اليوم؛ أن نهاية عصر النفط لن تكون بنضوب الاحتياطيات كما يُعتقد، وإنما بالاستغناء عنه لمصلحة مصادر الطاقة الأخرى البديلة، كالنفط الصخري، والطاقة الشمسية، وما قد يصل إليه العلم من اكتشافات جديدة تجعل النفط من حكايات الماضي في القرون القادمة. قد يحدث هذا قبل نضوب النفط بعدة عقود من الزمن، وهنا تتدخل عوامل عدة منها: العرض والطلب والأسعار، وما إلى ذلك. لكن في آخر الأمر، النفط لن يدوم لأحد، فهو ناضب.. ناضب، وبعد أربعة إلى خمسة عقود؛ سوف يظهر هذا النضوب في بلدان عديدة، منها دول خليجية. العبرة هنا ليست في عمر الاحتياطيات لدى الدول والشعوب، وإنما في عمر الطلب عليها..! ما فائدة الحفاظ على النفط للأجيال القادمة؛ إذا لم يكن هناك طلب عليه..؟
* تتذكرون جيدًا حديث الملك عبدالله بن عبدالعزيز- رحمه الله- عام 2011م، عندما طلب من الوزراء في جلسة المجلس؛ الدعاء بطول العُمر للنفط قائلًا: (الله يطوّل عُمْر البترول). تلك كانت رسالة بالغة الأهمية، واضحة الدلالة والمعنى. ففي تلك اللحظة؛ اطمأن رحمه الله على الملاءة المالية للدولة، بعد الخلاص من تراكم الديون وتبعاتها، وكانت أسواق النفط وقتها؛ تشهد نمواً كبيراً على الطلب والأسعار. كان رحمه الله من خلال عبارته تلك؛ يقرأ الحاضر والمستقبل معًا، ويوجّه نقداً ذاتياً للوزراء، ويطرح سؤالاً مُبطّناً: ماذا نحن فاعلون من دون عائدات النفط..؟
* نعم.. ماذا نحن فاعلون إذا نضب النفط أو توقف الطلب عليه..؟ هذا سؤال يجب أن يلازمنا بشكل دائم ونحن نخطط للبناء والتنمية في بلادنا: ماذا نحن فاعلون بعد النفط..؟ عاش أجدادنا وعرفوا مرحلة ما قبل النفط، وعشنا وعرفنا مرحلة النفط، وحان وقت التخطيط لمرحلة ما بعد النفط، وأظن أن (رؤية المملكة 2030)؛ تؤسس لهذه الفكرة، بل وتخطط لها علميًا وعمليًا، وذلك من خلال توجيه قنوات الاستثمار نحو مكونات طبيعية وبشرية هائلة تملكها المملكة في كافة جهاتها، من هذه المكونات المهمة التي لم تستغل بعد؛ بل وظلت في حالة انزواء عن المشهد إلى وقت قريب؛ المعالم التاريخية والآثارية، التي تنتشر في كل المناطق والمحافظات والمراكز، وكذلك تنوع وتعدد التراث الفني والشعبي. فهذه ثروة طبيعية وأخرى بشرية عظيمة، نابضة غير ناضبة، بل هي نابضة بالحياة إلى أبد الآبدين، لأنها كانت ومازالت عبر آلاف السنين، قبل النفط، ومع النفط، وسوف تبقى بعد النفط.
* إن أولى اهتمامات السياح إذا غادروا بلادهم إلى أي بلد في العالم؛ أن يقفوا على طبيعته ومعالمه، ويزوروا قلاعه وحصونه، ويقتربوا من حضارته في متاحفه وآثاره. هذه الصناعة التي يسمونها (السياحة)، هي عصب الحياة لمئات ملايين البشر في شتى أنحاء العالم، وهي التي توفر الدخل القومي الأول لكثير من الدول، وينخرط في عملها مئات ملايين الناس. كان عدد سياح جمهورية مصر العربية قبل نكبة (الإخوان المجرمين) في 2011م ؛ قرابة عشرين مليون سائح سنويًا، ودخلها السنوي من السياحة في حدود (25 مليار دولار). وهي لولا استثمارها الذكي لآثارها الفرعونية والإسلامية؛ لما وصلت إلى هذا المستوى المتقدم. هذا مثال لأهمية وقيمة الآثار وجدواها الاقتصادية، إذا وجدت إرادة عازمة، وإدارة حازمة؛ تعرف كيف تجعل منها ثروة ثرّة لا تنضب.
* إن آثارنا تدل علينا.. تاريخًا وحضارة وفهمًا للحياة، ونحن ندل عليها؛ بما نملك من فهم ووعي بأهميتها وقيمتها، وبقدرتها على الإسهام في الناتج الوطني العام. فلنجعل من آثارنا وتراثنا الوطني؛ ثروة وطنية نابضة، بعد ثروة نفطية ناضبة.