علي الصراف
اشتهر «حنّون»، في بعض التاريخ الشعبي، بأنه منافق ويسعى إلى الشهرة. وكان يريد أن يُحتفى به باعتباره معجزة قائمة بذاتها. ومن أجل هذه الغاية اعتنق المسيحية، وصار يُبشر بها لكي يُبشر بنفسه. ولكن المسيحيين لم يلقوا له بالاً، ولم يعيروه اهتماماً لأنهم كانوا يعرفون أنه دجال فحسب، وأن لديهم الكثير من أمثاله، حتى لا يجوز له أن ينافسهم. فلما انتشر الإسلام، قرر حنّون أن يعتنقه، إنما من أجل الشهرة أيضاً. ولكن المسلمين استخفوا به وأهملوه. فأراد أن يناكدهم، فقرر أن يعود مسيحياً. وهنا أيضاً لم يلق من أحد بالاً، حتى قال فيه الشاعر:
ما زاد حنون في الإسلام خردله...
ولا النصارى لهم شغل بحنون
اليوم، تريد «قناة الجزيرة» أن تكون حنّونا آخر. فتتبنى على سبيل الشهرة والدجل شعار «رفع سقف حرية التعبير».
وهذا شعار فارغ بالأحرى، عندما يُمارس من قبيل النفاق. فللحرية، ومنها حرية التعبير، وظائف. وما لم تسع هذه الوظائف إلى غايات بناءة في العمران الإنساني، فإنها لن تعدو كونها هراء محضاً.
الحرية يمكن أن تكون مجرد افتراض نظري، يلوكه البعض كما يلوك العلكة، دون أن يدرك وظائفها. والجهل بوظائف الحرية، شر. ولكن أن توّظفها، على سبيل المناكدة، من أجل التخريب، فهذا شرٌ أشرّ.
لا أحد، في الواقع، إلا ويريد الحرية. ولو كان المرؤ يعيش في غابة، فإنه يستطيع أن يمارس ما يشاء من «حرية التعبير»، بل وأن يصرخ ويعربد ما شاء له الهوى. لا توجد مشكلة، طالما أنه يفعل ذلك بمفرده. ولكن حالما يجد المرؤ نفسه في مجتمع، فإن حريته في التعبير لا بد وأن تتقيد بقيم وقوانين وأعراف وتقاليد، هي الواقع «القاسم المشترك الأعظم» لحريات الآخرين.
تتوقف حريتك، عندما تبدأ حرية الآخرين. هذا هو الشكل الأبسط للمعادلة. ولكن وجهها الأهم هو أن يكون للحرية وظيفة تخدم المجتمع الذي تُمارس فيه. وما لم يكن ذلك كذلك، فمن الخير لك أن تصمت.. فماذا فعلت «قناة الجزيرة» بحرية التعبير؟ وأين سعت إلى توظيفها؟.
لقد رأى الجميع، كيف يتحول الحوار إلى مهاترات، وكيف ينقلب النقاش إلى شتائم وسباب وضرب بالأحذية.. بل وكيف يتم إثارة أكثر القضايا حيوية من أجل أن تتحول معارك كلامية منخفضة المستوى إلى أقصى حد.
انطلاقاً من هذا المستوى (الواطي، بصراحة) أرادت «قناة الجزيرة» أن تكسب شهرة. ونجحت في أن تُلفت الانتباه، إنما إلى حين.
لم يكن الهدف من حرية التعبير، سوى نشر الفوضى والدعاية لأعمال التخريب. وفضلاً عن الترويج للإرهاب، وتسويق بضاعته، فقد أرادت «قناة الجزيرة» أن تكون منبراً للتشويه والاستخفاف، باستخدام ذات القوالب الجاهزة التي سبق أن استخدمتها بيئة الافتراضات الثورية واليسارية البليدة.
لا أعرف ما هو الجديد الذي ابتدعته «قناة الجزيرة» في ذلك السباق السطحي لإلحاق العيب بكل دول الخليج العربي. ولكني أعرف أن هذه الدول، بقيت مرفوعة الرأس، تصارع الأقدار، وتوازن بين الممكن والمأمول، من أجل البناء والتقدم. وبالدرجة الأولى من ذلك رعاية شعوبها والحفاظ على أمنها واستقرارها وازدهارها في أعتى المنقلبات والظروف.
كما لا أعرف ماذا يمكن لهذه «القناة» أن تضيفه على كل ما ظلت تتداوله منابر الابتذال والإسفاف، من كل نوع أيديولوجي ممكن، ضد المملكة العربية السعودية بالذات، ولكن الكل يرى ويعرف أن هذه البلاد غدت قوة إقليمية ودولية كبرى، يُحسب لها الحساب في كل شأن.
حنّون وحده ظل يصرخ ويعربد، متخذاً لنفسه غابة من القوالب الجاهزة، المأخوذة حصراً من «أدب» المستخفين والفوضويين والمهزومين.
حرية التعبير، ليست قولاً نقوله، فحسب.. إنها فعل نفعله لنبني فيه.. ويتعين أن نرى أثره لكي نتيقن من عوائده.
فماذا ترى حنّون يفعل بحريته؟.